منذ هروب رجل الأعمال الفرنسي البرازيلي واللبناني الأصل كارلوس غصن، من إقامته الجبرية في اليابان، لا تزال رحلة البحث عن فكّ لغز عملية الفرار وخلفياتها مستمرة على أكثر من حلقة وصعيد.
وتشير مصادر أمنية إلى أن فريقاً استخباراتياً يابانياً توجه منذ أيام إلى بيروت، وآخر إلى إسطنبول للعمل على جلاء قضية الهروب المعقدة، مؤكدة أن عمل هذا الفريق يرتكز فقط على جمع المعطيات المتعلقة بالثغرات الأمنية التي استطاع غصن تجاوزها منذ لحظة خروجه من طوكيو وصولاً إلى بيروت. الفريق الياباني لم يلتق غصن الذي من غير المرجح إقامته في منزله االمعروف في منطقة الأشرفية شرق بيروت.
الشركة الغامضة
وحول الجهة التي هربت غصن من اليابان إلى بيروت، يقول مصدر ديبلوماسي "لا يمكن لجهاز استخباراتي واحد تنفيذ عملية دقيقة كهذه متشعبة العناصر والمواقع، فهو يحتاج إلى شبكة أخطبوطية تخترق مجموعة واسعة من الأجهزة الاستخباراتية الدولية"، مستبعداً أن يقوم جهاز رسمي استخباراتي بعمل مباشر ضمن دولة أخرى، لأن أمراً كهذا قد يتسبب بحرج شديد وتوتر في العلاقات الدولية".
ويستنتج المصدر أن وراء تنفيذ العملية شركة خاصة "شبه عسكرية" عالمية وذات خبرات كبيرة، وقادرة على تغطية بعض أعمالها في أكثر من مكان في العالم. المصدر يجزم بعدم قدرة أي شخص على المستوى الفردي التنسيق مع شركات أمنية من مستوى معين، لانها لا تحبذ العمل على طريقة القاتل المأجور، إنما تعمل مع حكومات وأجهزة استخباراتية عالمية. وهذا يعني أن التواصل قد يكون حصل عبر جهات استخبارية دولية، مرجحاً أن تكون فرنسية أو أوروبية، وأن غصن وفّر التمويل اللازم ودفع مبلغاً ضخماً، بينما تولى الجهاز الأمني الغربي دور الوسيط بين الشركة الـ "شبه عسكرية" وعائلة غصن، لا سيما زوجته كارولين.
وحول دور الدولة اللبنانية بالعملية، يرى المصدر ذاته، أن الجهاز الاستخباراتي الغربي قد وضع الدولة اللبنانية عبر قنوات سرية بأجواء وصول غصن إلى الأراضي اللبنانية وضرورة تقديمها له التسهيلات والحماية اللازمة.
أميركيان نفذا المهمة
ومن المرجح وبحسب ما نقلت وسائل إعلام غربية أن مايكل تايلور وجورج أنطوان الزايك (من أصل لبناني) وهما متعاقدان أمنيان أميركيان، رافقا غصن على متن الطائرة الخاصة التي أقلعت من أوساكا إلى إسطنبول، ولحظة صعد الأميركيان الى الطائرة "بشكل طبيعي"، يحتمل أن يكون قد وضع غصن خلال الرحلة داخل صندوق أسود كبير يستخدم للآلات الموسيقية فيه ثقوب حتى يستطيع التنفس، ومزوّد بعجلات لتسهيل عملية التنقل.
وبحسب المعلومات فإن مايكل ل. تايلور الجندي السابق في فرقة "القبعات الخضر"، هو الذي ساعد مجلة "نيو يورك تايمز" في إخراج مراسلها "دافيد روهدي" من أسر حركة طالبان في أفغانستان في العام 2009، وهو أيضاً الرئيس السابق لشركة الأمن الدولية الأميركية، وقد أمضى مدة في السجن بعد إقراره بالذنب في الاحتيال المرتبط بالادعاءات القائلة بأنه دفع 45 مليون دولار في عقود وزارة الدفاع. وتايلور يتردد الى لبنان حيث يمتلك احد المصانع، وهو متزوج من ل. ع اللبنانية من منطقة جبيل، ويسكنان في منطقة كسروان. أما جورج أنطوان الزايك فهو موظف أمن في شركات تابعة لتايلور.
المزيد من التفاصيل
وعن الثغرات الأمنية التي استغلت، تتزايد فرضية استخدام جواز سفر سويدي مزور، في مطار كانساي الدولي في مدينة أوساكا، الأمر الذي يعني أنه رحل من منطقة الصالة الصغيرة عبر بوابة "تامايورا" التي تستخدم حصرياً للرحلات الخاصة، حيث أوصلته سيارة خاصة عند مدخل الصالة على مسافة تقل عن 100 متر من مكان انتظار السيارات. وغادر المطار كانساي على متن طائرة خاصة من طراز تشالنجر.
وتشير بعض المعلومات أن السلطات اليابانية غالباً ما تستعين بشركات أمن خاصة لإجراء الفحص الأمني وفحص الحقائب على خلاف دول أخرى يقوم فيها مسؤولون أمنيون أو مسؤولون عسكريون بمثل تلك المهام، الأمر الذي قد يكون أيضاً شكل ثغرة أمنية أخرى.
مالك الطائرة إيراني
ووفقاً لشركة "أم. أن. جي" التركية الخاصة لرحلات الطيران، فإن عميلين مختلفين استأجرا طائرتين خاصتين، وأن إحدى الرحلتين اتجهت من دبي إلى أوساكا ومن أوساكا إلى إسطنبول والأخرى من إسطنبول إلى بيروت ولم تكن هناك صلة واضحة بين الرحلتين المستأجرتين. وقالت الشركة في بيان إن أحد موظفيها اعترف بتزوير السجلات لاستبعاد اسم غصن من الوثائق الرسمية من دون علم الشركة.
وتؤكد المعلومات أن الملكية الأساسية للطائرة تعود إلى رجل الأعمال الإيراني رضا زراب الذي فرّ من تركيا إلى الولايات المتحدة، وصادرت طائرته حينها السلطات التركية التي باعتها لرجل الأعمال التركي تاركان سير.
اختفاء مضيف الطائرة
في سياق متصل، الطائرة التي وصلت الساعة 5:30 فجر الأحد 29 ديسمبر (كانون الأول) 2019 إلى مطار أتاتورك، نزل منها مايكل تايلور وجورج أنطوني الزايك. ويرجح أن كارلوس غصن لم ينزل من الطائرة. وبعد فترة قصيرة من دخولها الطائرة الى إحدى الحظائر، خرجت من الحظيرة ذاتها طائرة أخرى حلقت باتجاه بيروت.
وتضيف المعلومات أن هذه الطائرة التي تحمل اسم TC-TSR كانت نقلت رجلين أميركيين من دبي إلى أوساكا من أجل حفلة، وعادت بهما إلى إسطنبول، بمعنى أن التمويه تم بهذه الطريقة التي لا تكشف قدوم غصن، في حين أن الطائرة التي توجهت إلى بيروت حملت على متنها مضيف طيران إلى جانب رئيس شركة تجارية يدعى أوكان كوسمن، وشخص ثالث لم تعرف هويته بعد.
ويكمن اللغز وفق تلك المعلومات في طريقة خروج الطائرة من الحظيرة ذاتها، ومغادرتها بيروت وعودة الطائرة من جديد إلى إسطنبول من دون أن يكون فيها مدير الشركة التركية ومضيف الطيران، الأمر الذي يؤكد أن خلف تهريب غصن من اليابان قوة منظمة بشكل كبير.
المغادرة إلى فرنسا؟
وفي لبنان، يتوقع أن تستدعي النيابة العامة التمييزية كارلوس غصن الأسبوع المقبل للاستماع إليه، غداة تسلمها الشارة الحمراء من الإنتربول الدولي، ويرى وزير العدل اللبناني ألبرت سرحان، إنه من غير المرجح أن يسلم لبنان غصن إلى اليابان في ظل غياب أي اتفاق معها في الأمور المتعلقة بتسليم المتهمين، وسيتم تنفيذ السياق السيادي الذي يحكم الوضع.
إلا أنه وبعد أن تقدم محامون ناشطون في الحراك الشعبي بإخبار لدى النيابة العامة التمييزية في وجه رجل الأعمال كارلوس غصن، لاقترافه جرم دخول الأراضي الإسرائيلية ومخالفة قانون مقاطعة إسرائيل، بات القضاء محرجاً نظراً إلى حالة الموقوف عامر الفاخوري الذي يمتلك الجنسية الأميركية ويحاكمه القضاء بنفس التهمة بعد دخوله الأراضي اللبنانية.
وفي هذا السياق تقول مصادر قضائية إن هناك بحثاً عن تفسيرات قانونية ومخارج قضائية لتغطية غصن قانونياً انطلاقاً من ترؤسه مجلس إدارة شركة عالمية تلزمه التواصل مع كل دول العالم، مشيرة إلى أنه في حال عدم التوصل إلى هذه الصيغة ربما يتم النظر في إمكانية سفره إلى فرنسا التي أكدت عدم تسليمه للسلطات اليابانية.
المحامي الياباني يتفهم
وأعلن اليوم تاكاشي تاكانو المحامي الياباني لغصن أنه شعر في البداية بـ"الخيانة" إثر فرار موكله قبل أن يتفهمه، معتبراً أن ما دفع غصن للقيام بذلك هو صرامة النظام القضائي الياباني الشديدة.
وكتب تاكانو على مدوّنته "في البداية، شعرت بغضب شديد. شعرت بالخيانة" مؤكداً أنه لم يكن على علم بخطة فرار موكله. وأضاف "لكن الغضب تحوّل إلى أمر آخر عندما تذكرت كيف كان يعامله النظام القضائي في البلاد". وتابع "يمكنني بسهولة تخيّل لو عاش أشخاص آخرون لديهم إمكانات مالية وعلاقات والقدرة على التصرّف التجربة نفسها، لكانوا قاموا بالأمر نفسه أو على الأقل فكروا به".