أين أخطأ قاسم سليماني مع الأميركيين حتى جعلهم يتخذون في مطلع العام الجديد قراراً بتصفيته؟
ليس سليماني صديقاً للأميركيين، لكن حكومته كانت ممتنة لفتح الدبابات الأميركية أبواب بغداد أمامها في 2003، وأراحتها قبل سنتين من سلطة "طالبان" في أفغانستان. ونشأ نوع من التعاون أو الالتقاء الموضوعي حول أولويات وأهداف، بينها في مرحلة لاحقة دعم بقاء بشار الأسد في رئاسة سورية ومحاربة الإرهاب الذي انطلق من سوريا ليمتد إلى العراق تحت راية تنظيم "داعش" الشهير.
عدلت معركة سوريا الأولويات. جمع عنوان محاربة الاٍرهاب دولاً وأطرافاً متناقضة، فالتقى الإيراني والإسرائيلي والروسي صراحة على دعم الأسد، ووقف إلى جانبهم المسؤولون الأميركيون والغربيون الذين غابت دعواتهم لتنحية الرئيس السوري، ليحل محلها شعار مكافحة الإرهاب كعنوان يختصر الأزمة السورية. وسادت تهدئة طويلة على خطوط التماس مع إسرائيل، ولَم تؤد الهجمات الإسرائيلية على أهداف إيرانية أو تابعة في سوريا إلى تصعيد أو حروب، وجاء الرد الإيراني عبر الناطقين باسم طهران تحذيراً لتل أبيب بضرورة عدم المس بقواعد الاشتباك التي سادت بعد حرب 2006 في لبنان.
كان سليماني طوال العقدين الماضيين قائداً للميليشيات الإيرانية في المشرق العربي، وهو الذي أشرف على تنفيذ سياسات حكومته سنة بعد سنة وصولاً إلى الصيغة الفضفاضة لـ"التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب". وفي الأثناء اتسع دوره إلى اليمن وأفغانستان وبدأت صورته تتخذ طابعاً أسطورياً وسط جمهوره وفي جمهوريته الإسلامية. وبعد المعركة ضد "داعش" والقضاء عليه في العراق قُدم سليماني بأنه صانع الانتصار، وكتبت عنه التقارير في الصحف الإيرانية، وحرص شخصياً على كشف دوره في حرب تموز (يوليو) 2006، كقائد ومرشد لقوات حزب الله في المعارك ضد إسرائيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل كان الرجل يستعد لدور سياسي في بلاده؟ الجواب عن هذا السؤال نجده في العديد من الإشارات والكتابات التي تتحدث عن سليماني كبديل محتمل في رئاسة إيران، خصوصاً بعد انسحاب أميركا من الاتفاق النووي. وحرصت تلك التحليلات على تقديمه كالرجل الثاني في النظام، وهو يتمتع برعاية وثقة المرشد وبدعمه الكامل.
لم تتعرض أميركا لسليماني في غالبية المراحل السابقة. بقيت على اتصال معه وهو كابر مرة ورفض قراءة رسالة من وزير خارجيتها. ويروي كتّاب مطلعون وصحافيون أن واشنطن أرادت الرجل حيل طوال تلك السنوات، ويقولون إن إسرائيل أبلغت أميركا لدى اغتيالها عماد مغنية في دمشق، بقدرتها على تصفية الرجلين سوية، إلا أن واشنطن رفضت ورفعت الـ"فيتو" في وجه تل أبيب وعاش سليماني بعدها 12 سنة.!!
ثمة أشياء جعلت سليماني يتخطى حدود اللعبة التي أدى فيها دوره بجدارة، وربما تكون أميركا مسؤولة عن إعطاء إشارات أوقعت الرجل وغيره في سوء التقدير، فيسرّع في تنفيذ خطة القيادة الإيرانية للإمساك بالمنطقة.
فمنذ منتصف العام الماضي ساد شعور ملموس بأن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس دونالد ترمب، في طريقها للتخلي عن الشرق الأوسط. فهي لم ترد على مهاجمة ناقلات النفط في الخليج، ولم تحرك ساكناً لدى قصف حقول أبقيق ومواقع أرامكو في السعودية، وصمتت على إسقاط طائرتها العسكرية على يد الإيرانيين... وفي موازاة ذلك قررت ترك الأكراد لمصيرهم والانسحاب من الشمال السوري، وأبدت رغبتها بوضع آلية للانسحاب من العراق بمقتضى الشعار العريض الذي يكرره ترمب حول إعادة الجنود إلى وطنهم.
شجعت هذه الإشارات القيادة الإيرانية على التفكير بتعبئة الفراغ الذي سيتركه الأميركيون، وانصرف سليماني إلى ترجمة الخطط على الأرض. لكن الأمر الجديد الذي واجهه مع قادته هو اندلاع انتفاضات متزامنة في إيران والعراق ولبنان، تميزت من بينها انتفاضة العراق بطرحها شعارات مباشرة ضد التسلط الإيراني. حكمت المرشدية الإيرانية على الانتفاضات الثلاث بالتبعية لأميركا وإسرائيل، فجرى قتل آلاف الإيرانيين ولم تنجح محاولات قمع العراقيين وسادت حالة من عدم اليقين في لبنان.
تحرك سليماني بين البلدان الثلاثة مركزاً على العراق حيث القضاء على الانتفاضة يتيح استكمال معركة إخراج الأميركيين الراغبين في ذلك أصلاً.
إلا أن سليماني استعجل ومُني بسوء التقدير، فمحاولاته محاصرة الانتفاضة وقمعها، أرفقها بسعي إلى حرف الأنظار إلى معركة مع الوجود الأميركي، آملاً أن يعزل المنتفضين عبر جر الجمهور العراقي إلى معركة مع "الشيطان الأكبر". وحصد التوتير وتوجيه القذائف إلى المقرات الأميركية في العراق ردوداً أميركية تصاعدية، انتقلت من دعم الانتفاضة سياسياً إلى الرد على الهجمات التي ينسب لسليماني "الفضل" فيها.
وكأن أميركا أعادت تجميع الصورة منذ منتصف 2019، صورة شللها والإساءة التي لحقت بها بسبب عدم ردها على الاعتداءات، عشية خروج لها وشيك من المنطقة، تحدث عنه ترمب كثيراً... بما في ذلك من العراق، البلد الذي يعني الكثير للمشروع الإيراني التوسعي.
اختصرت أميركا في شخص سليماني كل التوغل الإيراني في البلدان العربية المشرقية، وانتقمت لكل الأذى الذي لحق بها في بحر الخليج وبره، وعندما قررت التخلص منه، تخلصت من دور لاحق يستعد له في ضم العراق بإحكام إلى سياسة طهران وربما التربع على عرش خلافة جديدة لبغداد أثر رمزي فيها، ومن حواضرها دمشق وبيروت ونواح أخرى.
قتل سليماني فترنّح المشروع. أما التداعيات فمتروكة للأيام والأسابيع القليلة المقبلة.