إذا كان بعض النقاد الغربيين يُجمعون على أن نظريات الكاتب المسرحي الألماني برتولت برشت حول تقنيات الإخراج والتمثيل ومنها نظرية "التغريب" و"المسرح الملحمي" الذي استبدله لاحقاً بـ "المسرح الديالكتيكي"، أضحت قديمة أو "متحفية" وخارج المفاهيم الإخراجية ما بعد الحديثة، فهم لا ينكرون بتاتاً قوة نصوصه المسرحية وكتاباته التي لا تزال حاضرة بشدة على الرغم من توالي عصر الأيديولوجيات الشمولية. فأعماله المسرحية الشهيرة ما برحت تشكل "ريبرتواراً" أو مخزوناً عالمياً دائماً وراهناً، وتقدم على أبرز المسارح في أوروبا والعالم بعدما ترجمت إلى لغات عديدة. ولئن بلغ مسرح برشت ذروة رواجه إبان صعود موجة الفكر الاشتراكي والفن السياسي الملتزم، فهو راح يواجه اسئلة كثيرة مع صعود حركات التحرر من الأنظمة التوتاليتارية، ويخضع لإعادة قراءة في ظل سقوط جدار "الايديولوجيات" كما قيل او اعلان "نهاية التاريخ". لكن هذا المسرح ظل حاضراً من خلال القضايا الفلسفية، الاجتماعية والإنسانية التي طرحها، والأفكار التي عالجها وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمشكلات الفرد والجماعة في عصر يواجه سلطة وحشية، هي سلطة الرأسمال الجديد والعولمة و"التسليع". وقد لا يكون مستغرباً أن يُقبل مخرجون عالميون وعرب اليوم على تقديم مسرحيات عدة له، ولكن في صيغ تختلف عن الصيغ الإخراجية التي اقترحها برشت ورسخها، وفي مقاربات حديثة لمفهوم التمثيل تبتعد كثيراً عن مبادئه الفنية "المؤدلجة" التي عارضت مدرسة "الواقعية النفسية" التي أسسها المسرحي الروسي ستانيسلافسكي، أبو المسرح الجديد. وقد تحتاج مفاهيم الإخراج والتمثيل التي طرحها برشت إلى معالجة أخرى، علماً أن نقاداً كثراً تطرقوا إليها وكشفوا بُعدها الإشكالي.
ثقافة الخوف
قد يكون هذا الكلام خير مدخل إلى معنى قراءة برشت اليوم ولا سيما بعض أعماله التي لم تترجم سابقاً إلى العربية ومنها مسرحية " 99 في المئة - الخوف والبؤس في الرايخ الثالث" (الهيئة العربية للمسرح) التي يقدمها المترجم والناقد المصري المقيم في ألمانيا سمير جريس والشاعرة المغربية ريم نجمي للمرة الأولى إلى القراء العرب في ترجمة جميلة ومتينة مع مقدمة مهمة تلقي ضوءاً على صاحبها ومساره الشخصي والإيديولوجي والإبداعي. تُعدّ هذه المسرحية من أبرز أعمال صاحب "الأم شجاعة"، وقد كتبها العام 1938 بالمشاركة مع مارغريت ستيفن، وفيها يرسم صورة شاملة لألمانيا منذ وصول هتلر إلى الحكم العام 1933 حتى عشية الحرب العالمية الثانية. وتتطرق المسرحية للنظام النازي المرعب ومخيمات الاعتقال والنزعة اللاسامية والدكتاتورية والعنصرية… وكذلك إلى الخوف الذي زرعه هذا النظام في أوساط البرجوازية وفي الوسط الطبي والقضائي وإدارة السجون. هذا الخوف سيطر على الأفراد أو المواطنين ووجه حياتهم اليومية وعلاقاتهم بعضهم ببعض، فصار الواحد رقيباً على الثاني ومتربصاً له. وفي فصل عنوانه "الواشي" يخشى الأب والأم ما قام به ابنهما بإعلامه الأجهزة النازية بموقفهما النقدي من النظام والذي ظل سرياً داخل المنزل.
وعودة إلى المقدمة الوافية التي وضعها جريس، يتضح أن برشت لم يكن يريد أن يخبئ أعماله المكتوبة في الأدراج منتظراً زمناً أفضل وآمن، بل كان يبغي النضال ضد النازية. وعندما كان منفياً في الدانمارك راح يجمع مادة عن الرايخ الثالث، مستخدماً برامج إذاعية وتقارير صحافية وشهادات شهود عيان. وانطلاقاً منها أنجز في العام 1938 خمسة وثلاثين مشهداً تصور الحياة اليومية في ألمانيا النازية. لكن هذه المشاهد لم تعتمد كلها، فتم اختيار 24 مشهداً منها عندما طُبعت المسرحية للمرة في ألمانيا عام 1948، وهي المشاهد التي ترجمها سمير جريس والتي حوتها مثلاً الترجمة الفرنسية الصادرة عن دار آرش والتي يعتمدها معظم المخرجين الفرنسيين.
وبحسب المقدمة أطلق برشت على مسرحيته أولاً عنواناً آخر هو "ألمانيا – حكاية وحشية". غير أن العرض الأول الذي قدم للمسرحية في باريس وبالألمانية في 21 مايو (أيار) 1938 اقتصر على ثمانية مشاهد من المسرحية وحمل عنوان "99 في المئة – صور من الرايخ الثالث"، وقامت بدور البطولة فيه هيلينه فايغل، زوجة برشت. يفضح هذا العنوان الدعاية النازية وما روجته عن الانتخابات البرلمانية التي أجريت في العاشر من أبريل (نيسان) 1938، عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية، مشيعة أن نسبة الألمان الذين انتخبوا هتلر بلغت 99 في المئة. أما العنوان الذي اختير بعد ذلك في طبعة الأعمال الكاملة لبرشت فهو "الخوف والبؤس في الرايخ الثالث".
فضّل المترجم جريس عنوان العرض الباريسي الأول: "99 في المئة - الخوف والبؤس في الرايخ الثالث"، فهو يرى أن المسرحية لا تتحدث عن الرايخ الثالث أو عن ألمانيا فحسب، بل تقدم ببراعة آليات القمع الفاشي، وإمكانات استخدام الديمقراطية والانتخابات، لإقامة نظام يزرع الخوف في نفوس الناس، وينشر البؤس الأخلاقي بينهم. ويواصل جريس استعراض مسار هذه المسرحية، فهي عرضت بعد باريس في سان فرانسيسكو بحضور الكاتب في 7 يونيو (حزيران) 1945، في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان العرض جزءاً من الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة تأسيس الأمم المتحدة وتوقيع ميثاقها. وفي 30 يناير (كانون الثاني) 1948، في ذكرى مرور 15 عاماً على تولي هتلر السلطة، عُرضت المسرحية لأول مرة في ألمانيا، في "المسرح الألماني" القائم في برلين الشرقية. ثم راحت المسارح الألمانية تعيد اكتشاف هذه المسرحية، لا سيما بعد تنامي تيارات اليمين المتطرف عقب وفود أعداد كبيرة من اللاجئين إلى ألمانيا.
الطاعة العمياء
أما تصدير برشت مسرحيته بقصيدة نثرية كتبها العام 1938 بعنوان "استعراض الجيش الألماني"، يشير فيها إلى هدف المسرحية، فإنما، كما يعبر جريس، كي يجعل المشاهدين يطلعون على الحالة النفسية للشعب الألماني الذي كان يطيع القائد طاعة عمياء في الطريق إلى "حربه العظيمة"، من دون أن يجرؤ أحد على الشكوى أو التذمر أو طرح أسئلة. وقد أعقبت القصيدة مشاهد قد تبدو منفصلة، لكنها تشكل عبر تقنية "المونتاج" لوحة رهيبة عن الحياة في ظل نظام نازيّ وفاشيّ؛ يعتمد الترهيب بغية إخضاع الناس للسلطة ومماشاة النظام أو التزام الصمت. فالقاضي مثلاً في مشهد "العثور على الحقيقة" يخشى البحث عن الحقيقة أو كشفها، فهو يتحاشى إغضاب السلطة لئلا تنقله إلى بلدة بعيدة. يقول القاضي: "أستطيع إصدار حكم على هذا النحو، أو ذاك، بحسب المطلوب مني، ولكن لا بد أن أعرف ما هو المطلوب مني!" وهذه جملة تشبه جملة يقولها المعلم في مشهد "المخبر": "أنا مستعد لتدريس كل ما يريدون، ولكن ما الذي يريدون تدريسه؟ ليتني أعرف!" أما العلماء فيخشون مجرد لفظ اسم أينشتاين لأنه عالم يهودي، ويتجنب الأطباء ذكر سبب الأمراض، لأنهم يعرفون أن مرضاهم تعرضوا لتعذيب قاس، ويتجاهل القس الأسئلة التي تعذب الرجل المحتضر، ويكتفي بعبارات التعزية المموهة من الكتاب المقدس. هذا هو الخوف المطلق، يهيمن على الناس ويلجم ألسنتهم، حتى أن المحتضر يسأل القس: هل تعتقد أن المرء بإمكانه هناك، في السماء، أن يفتح فمه مرة أخرى؟". يسأل سمير جريس في المقدمة: "كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم نظاماً كهذا؟ كيف يقاوم عامل – على سبيل المثل - لا يجد عملاً إلا في مصنع ينتج سلاحاً لهتلر؟".
في المسرحية يعرض برشت أزمة معارضي النازية ويؤيدهم ويقف إلى جانبهم، وهم ينتمون إلى طبقة الناس العاديين. فهناك الأم التي ترفض أن تتماهى ابنتها مع شبيبة هتلر، والرجل المحتضر الذي يهاجم ابنه، الذي اعتنق الإيديولوجيا النازية، ويسخر من القس الذي يتهرب من اتخاذ موقف صريح، فيردد الآية التي تقول "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، والمرأة التي ترتدي الثوب الأسود وتبكي منتحبة حزناً على مصرع أخيها الطيار، متحديةً أوامر النازيين بعدم البكاء، بل إنها تصفهم بـ "عتاة المجرمين"، من غير خشية من العواقب.
إلا أن برشت لا يفقد الأمل بتاتاً ومسرحه أصلاً يهدف إلى زرع مثل هذا الأمل في المشاهدين أو القراء. هكذا مثلاً ينهي مسرحيته برسالة من أحد المقاومين الذين حكم عليهم النظام بالإعدام، يؤكد فيها لابنه أن نضاله لم يكن عبثاً، وأن حياته اكتسبت قيمتها عبر مقاومة القامعين، فهو إن لم يناضل، كان على البشرية أن "تغرق كلها في أوحال الهمجية". ويختتم برشت المسرحية بكلمة واحدة، أو صرخة وحيدة، هي: لا!
لعل ترجمة سمير جريس وريم نجمي مسرحية برشت إلى العربية للمرة الأولى تتيح للقراء العرب أن يطلعوا على نص برشتي متين وحقيقي وراهن بقضاياه التي يطرحها بجرأة وموضوعية، وهي قضايا الحرية والتحرر وقضايا النظام النازي والديكتاتوري، بآلياته القمعية البغيضة والمجرمة. هذه المسرحية التي بذل المترجمان جهداً كبيراً في تعريبها دامجين بين الأمانة العلمية في الترجمة والصياغة العربية المتينة والحديثة والمدركة فن الكتابة المسرحية والبرشتية خصوصاً، هذه المسرحية تنضم إلى المكتبة البرشتية العربية، التي كان باشر في تأسيسها عربياً المترجم والأكاديمي المصري عبد الغفار مكاوي ناقلاً عدداً كبيراً من أعمال برشت المسرحية والشعرية، وهو كان أول من عرّف القراء العرب بمسرحه، فترجم بدءاً مسرحية "الاستثناء والقاعدة" عام 1958، وأعقبها بترجمات أخرى مثل "بعل" و"السيد بونتيلا وتابعه ماتي" و"قائل نعم وقائل لا" و"أوبرا صعود وسقوط مدينة مهاغوني". طبعاً هناك أسماء أخرى أسهمت في ترجمة برشت عن الألمانية مثل الناقد السوري نبيل الحفار والمفكر المصري عبد الرحمن بدوي الذي ترجم "دائرة الطباشير القوقازية" وسواهم. وقد تمت ترجمة أعمال أخرى لبرشت عربياً عن لغات وسيطة كالإنجليزية والفرنسية، ولكن لا يمكن اعتمادها جراء عدم نقلها عن اللغة الأم أي الألمانية التي كان برشت أحد كبار المبدعين فيها.