تُنفق ملايين الجنيهات من أموال دافعي الضرائب في بريطانيا لمساعدة هيئة "الخدمات الصحّية الوطنية" على الاستفادة من ثورة الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحّية. وقد تراكم هذا الزخم منذ أعوام عدة، ووصل الآن إلى نقطة تحوّل. إذ أظهرت سلسلة من الدراسات والتجارب أن الذكاء الاصطناعي وتقنيات تعليم الآلات، يمكنها النهوض بالمهات التي تؤديها التقنيات التقليدية أو تحسينها. والأهم من ذلك بالنسبة إلى المرضى، يتمثّل في أن خوارزميات تعليم الآلات [المعادلات الرياضية التي تستعمل في برمجة الآلات الذكية] تقدّم حلولاً في مجال التعرّف على الأنماط، ما يتيح للآلات اكتشاف وتشخيص سرطانات الثدي وأورام الدماغ وغيرها من الأمراض التي تبرز عند المقارنة بين آلاف أو حتى ملايين الفحوصات الصحّية.
وأثبتت دراسة حديثة أجريت على استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال تشخيص سرطان الثدي، أن أداء الآلات الذكية في الأقل كان متساوياً مع البشر في اكتشاف السرطان، بل تفوق على الإنسان في تجنّب الوقوع في التشخيص الخاطىء بوجود إصابة عندما لا تكون موجودة فعلاً. وأخيراً، كشفت دراسة جديدة أجراها فريق علمي في نيويورك، أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد الجرّاحين عِبْرَ تقديم تشخيص دقيق لأورام الدماغ في دقائق معدودة، بل حتى أثناء الوقت الذي يكون فيه المريض على طاولة العمليات.
ومن المستطاع القول بأن هذه النتائج المثيرة للإعجاب وكذلك حقيقة أن تقنية الذكاء الاصطناعي تعمل سبعة أيام في الأسبوع وأربعاً وعشرين ساعةً في اليوم من دون وجود مشكلة نقابات أو عقود يجب التفاوض عليها، تعني كلها أنها تقدّم حلاً مغرياً للحكومة البريطانية ولـهيئة "الخدمات الصحّية الوطنية" التي تعرف أنها تفتقر إلى العدد اللازم من الممرّضات والأطباء من أجل التعامل مع الطلب المتزايد على الخدمات الصحّية. ويبشّر وزير الصحة مات هانكوك بإمكان حصول "الخدمات الصحّية الوطنية" على مزيد من التكنولوجيا في مجال الدعم الطبّي والإصلاح الذي طال انتظاره. وتنفق الذراع التقنية الداخلية الرقمية للهيئة (تعرف بإسم "إن آتس إس إكس"NHSX )، حوالى 250 مليون جنيه استرليني (323 مليون دولار أميركي) على الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية، كجزءٍ من مسار مختبر جديد للذكاء الاصطناعي.
وفي المقابل، أكد رئيس هيئة "الخدمات الصحّية الوطنية"، السير سايمون ستيفنز، أنه يريد أن تكون "الخدمات الصحّية الوطنية" رائدةً على المستوى العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي كي يساعدها في تلبية ملايين المواعيد التي تؤخذ في العيادات الخارجية. وكذلك، لا يبدو مقنعاً سجل "الخدمات الصحّية الوطنية" في مجال الاعتماد على التكنولوجيا وتبنّي تكنولوجيا المعلومات على نطاق واسع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجاء "البرنامج الوطني لتكنولوجيا المعلومات" الذي وضعه حزب العمّال وأطلقه في 2002، بمثابة كارثة، إذ كلّف دافعي الضرائب 10 مليارات جنيه استرليني (قرابة 13 مليار دولار أميركي)، وفشل في الوفاء بوعوده. ويُعدّ استخدام الروبوتات في الجراحة مجالاً آخر للابتكار التكنولوجي الذي رُسمت علامات استفهام حوله من الناحية العملية. وأصدرت "إدارة الغذاء والدواء" في الولايات المتحدة تحذيراً في وقت سابق من هذه السنة، في شأن استخدام الروبوتات في جراحات السرطان، مشيرة إلى إن الأدلة لم تكن واضحة في ما يتعلّق بجني فوائد منها، وأظهرت في بعض الحالات أن المرضى كانوا في حالة أكثر سوءاً.
من ناحية اخرى، إنّ الذكاء الاصطناعي موجود الآن ويُستخدم فعلاً في مجال الرعاية الصحية، لكن يجب اختباره على غرار ما يحصل مع دواء جديد أو عقار مُكتَشَفْ. وإذا كانت الاتجاهات الناشئة صحيحة، فإن القوة الحقيقية للذكاء الاصطناعي لن تكون بديلاً من الأطباء والممرّضات وغيرهم من موظّفي التشخيص، بل عاملاً مساعداً في اتّخاذ جميع هولاء قراراتهم. وأظهرت دراسة أجريت في نيويورك في شأن جراحة الدماغ، أن الأخطاء التي وقع فيها الذكاء الاصطناعي وعلماء الأمراض كانت مختلفة، بمعنى أنه عندما أخطأ البشر وقعت الآلات الذكية في الخطأ أيضاً، لكن مع مرضى مختلفين. واستنتج واضعو البحث أنه إذا جرى الجمع بين الإثنين، فإن الدقة قد تصل إلى مئة في المئة. ويعمل موظّفو هيئة "الخدمات الصحّية الوطنية" على الأرض لتلبية طلب هائل من المرضى، وفي ظل أعوام من النقص في التمويل والتدنّي المزمن في عدد الموظفين. ولن تتمكّن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي من الحلول مكان الطبيب، ولن يكونا قادرين على التعامل مع الاحتياجات الشخصية للمرضى وتغيير القسطرة أو إجراء تشخيص تفريقي [يُبيّن الاحتمالات المختلفة بشأن مرض ما]. ووفق الدراسات، يتبيّن أن الذكاء الاصطناعي أيضاً عرضة للوقوع في أخطاء قاتلة محتملة.
وفي هذا المجال، يتوجب التطلّع إلى وضعية تواكب الآلات فيها الإنسان عِبْرَ عملية تفاعل متبادلة بينهما، مع إبقاء المجال مفتوحاً أمام دعم القرارات أو نقضها في الاتجاهين. ولتحقيق ذلك، تحتاج هيئة "الخدمات الصحّية الوطنية" إلى الاستثمار في القوى العاملة الراهنة، التي سيظل عدد منها يعمل أثناء عقود مقبلة للتأكد من أنها تتلقّى المعرفة ومهارات التفكير الناقدة من الكومبيوتر، لكن من دون الاعتماد كلياً على ما تتوصل إليه الأجهزة الذكية. في نهاية الأمر، يتوجّب على طواقم الرعاية الصحية أن تتمرس في التفكير المستقل وكذلك من تحدّي الآلات، لأن الرعاية الصحية نادراً ما تعتمد على إطار ثنائية "نعم أو لا" [إشارة إلى طريقة عمل الكومبيوتر والآلات الذكية]، ويمكن أن يؤدّي اختزالها إلى هذا المستوى إلى تكاليف غير متوقّعة.
© The Independent