"وصلت جحافل داعش لتخوم أربيل بكردستان العراق، فاتصل الزعيم الكردستاني مسعود برزاني بالقيادة الإيرانية يطلب منها النجدة، فطلب منه الاتصال بقاسم سليماني، الذي طلب منه بدوره الصمود حتى يصل غدا بنفسه، فوصل الخبر لداعش فتبعثرت قبل وصوله، وأصبحت شذرا مذرا، فحمى قاسمي أربيل من السقوط بيد داعش دون قتال".
وصلتني هذه القصة الأسطورية ضمن توزيعات القصص الأسطورية التي حيكت حول الجنرال قاسم سليماني الذي اغتالته أميركا ببغداد يوم الجمعة الماضي، وهي قصص حيكت ضمن قصص خيالية حول بطولات سليماني الوهمية بالقضاء على داعش في العراق، ونسي أو تناسى هؤلاء الخياليون أنه لولا طيران التحالف بقيادة أميركا، وتضحيات كتضحيات المقاتلات الجوية الأردنية والخليجية التي اشتهر بينها الطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي أعدمته داعش حرقاً وهو حي، واشتهرت الطيارة فاطمة المنصوري من الإمارات، لما تمكن سليماني ولا غيره من صد داعش – ليس على أسوار أربيل وحسب، ولكن على أسوار بغداد وكربلاء داخل العمق العراقي الجنوبي.
فالواقع أن سليماني كان يظهر بالأماكن والمدن العراقية والسورية بعد أن يمسحها "سجادياً" طيران التحالف بالعراق وشرق سوريا، أو الطيران الروسي بحلب وما جاورها ليحيّي المقاتلين الشيعة العرب والأفغان الذين جندهم للقتال نيابة عنه وعن بلاده إيران، وليثبت أسطورة أن إيران تسيطر على الهلال الخصيب وتتحكم بأربع عواصم عربية: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وهو وهم أسطوري آخر كلف الجمهورية الإسلامية الإيرانية كثيراً، فلقد خلق مشاعر من الغضب العربي بهذه العواصم ضد التواجد الإيراني الذي مثل رمزيته قاسم سليماني.
قاسم سليماني هو قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني الذي أنشئ لتحرير القدس، لكن "نشاطه" التحريري امتد من جرف الصخر بغرب العراق، وحتى بيروت مروراً بدمشق وحلب وانتهاء بصعدة وصنعاء جنوباً، لكنه لم يتوجه للقدس التي أنشئ من أجل تحريرها، وأترك حكم وتفسير ذلك لقارئ هذه السطور.
والسؤال المهم بعد اغتيال سليماني: هل جاء هذا الاغتيال ضمن استراتيجية أميركية لوقف الزحف الشيعي – السياسي - الفارسي بالمنطقة والحد من نفوذها؟ هل عملية الاغتيال هذه هي إعلان صارخ ببداية هذه الاستراتيجية أم أنها لا تخرج عن تخبطات الرئيس دونالد ترمب بسياسته الخارجية؟ فكلنا يتذكر إعلاناته بالانسحاب من العراق وأفغانستان وشمال سوريا، والعودة عن تلك الإعلانات بإرسال مزيد من الجنود للمنطقة.
أما السؤال الأهم بعد اغتيال رمزية الطموح الفارسي – الشيعي - السياسي فهو: هل تدعو هذه العملية العقلاء بإيران لمراجعة كوارث سياسة تدخلهم بالشأن العربي؟ وهل يعيد البراجماتيون الإيرانيون بطهران حسابات الربح والخسارة بعد الخسائر السياسية والمعنوية والأعباء المالية التي منيوا بها بتنفيذ من الجنرال المقتول قاسم سليماني؟ أم أن صرخات الجنازة ولطم مسيراتها الاستعراضية وقتلاها تدافعاً ستقود لحماقات لن يدفع ثمنها سوى شعوب المنطقة، وعلى رأسها الشعوب الإيرانية المغلوبة على أمرها منذ أربعة عقود؟
قامت إيران صباح الأربعاء الماضي بفرقعات صوتية استهدفت قاعدتين عسكريتين بالعراق، لم ينتج عن تلك الصواريخ أية خسائر تذكر، لا بالأرواح ولا بالمعدات، كما لوحظ أن الصواريخ الأميركية المضادة التي كانت على أقصى درجات أهبة الاستعداد، لم تسقط صاروخاً إيرانياً واحداً. خطب قائد الثورة علي خامنئي بعد إطلاق تلك الصواريخ مشيداً بالانتقام لدم قاسمي، وصرح وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف بأن الرد "قد انتهى وبأن إيران لا تريد حرباً ولا تصعيداً".
أعتقد بأن إيران ستركز على الانتقام الاستراتيجي بدلا من الانتقام العسكري المباشر ضد الولايات المتحدة الأميركية، ويستهدف ذلك الانتقام الاستراتيجي أدناه:
الأول هو استغلال حدث الاغتيال لتعزيز قبضة النظام ولتوحيد الداخل وقمع أية مطالبة بالحرية وتحسين الأوضاع الاقتصادية وتعبئة المشاعر الوطنية ضد عدو الخارج. والثاني هو استغلال حادثة الاغتيال لتشتيت الانتباه عن الثورة العراقية الشيعية التي تطالب برحيل إيران من العراق، وتصويب هذه المطالب نحو رحيل القوات الأميركية من العراق وسوريا، وفي ذلك نصر استراتيجي كبير لإيران، لو تحقق، لأنها ستنفرد بالشأن العراقي وتتحكم بقراره.
تبدو الأمور وقت كتابة هذا المقال في طريقها نحو تهدئة مرحلية، وخصوصاً بعد تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي قلل من أهمية الرد الإيراني، لكن التوترات لا زالت قائمة، والاحتمالات مفتوحة على كل السيناريوهات، فهل يمكن أن تندلع حرب أخرى بالمنطقة يمكن أن تلقي للنظام في طهران بطوق نجاة؟ أم تندلع حرب يمكن أن تفضي إلى سقوط نظام طهران؟ أم تندلع حرب بشكل محدود يمكن أن تبرر دخول إيران بمفاوضات مباشرة مع ترمب؟ هل تندلع الحرب العالمية الثالثة؟
لا أحد يملك إجابات محددة على هذه التساؤلات سوى تطورات الأحداث وما تحمله الأيام من أسرارها، لكن المؤكد أن اغتيال قاسم سليماني يعني تغييراً لقواعد اللعبة، وتجميداً لحلول أو مفاوضات مباشرة "علنية" بين إيران والولايات المتحدة الأميركية طيلة العام 2020، حيث يأمل الإيرانيون بخسارة ترمب الانتخابات الرئاسية بنوفمبر (تشرين الثاني) القادم، وهو أمر مستبعد اليوم، وسيكون أكثر بعداً لو اندلعت حرب شاملة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، فالناخب الأميركي غالباً ما يقف خلف رئيسه وقت الحروب، وخصوصاً ببداياتها، وبالأخص بحروب اليوم التكنولوجية الحديثة التي لا ينتج عنها أعداد هائلة من توابيت الجنود الأميركيين.
أما الحديث عن اندلاع حرب عالمية ثالثة فهذا من تأليف مَنْ نَسَجَ قصة سليماني بأربيل المذكورة أعلاه بمقدمة هذا المقال.