على مدى مئات السنوات، اشتهرت محافظة البصرة الواقعة جنوب العراق بخصوبة أراضيها وكثرة أنهارها ووفرة إنتاجها الزراعي من بعض أنواع المحاصيل. وكانت حتى عقود قليلة أكبر مُنتج ومُصدر للتمور العالية الجودة على مستوى العالم، لكنها اليوم تستورد التمور من دول الجوار، مثلما تستورد معظم المنتجات الزراعية الأخرى لتغطية الاستهلاك المحلي. إذ فقدت المحافظة مساحات شاسعة من أراضيها الزراعية بسبب الحروب المتتالية وتعاقب موجات الجفاف، وضعف الدعم الحكومي قطاع الزراعة، وزحف المناطق السكنية إلى الأراضي الزراعية تحت تأثير أزمة السكن، إضافة إلى تنامي عمليات إنتاج النفط، التي تعتبر الأكثر تأثيراً.
النفط يسحق الزراعة
مساحات واسعة من الأراضي أُلغيت الأنشطة الزراعية فيها، وقطعت أشجارها وسحقت مزروعاتها بالجرافات في غضون الأعوام القليلة الماضية من أجل حفر آبار نفطية جديدة ومد خطوط أنابيب إلى مستودعات التصدير. ومن المتوقع حفر مزيد من الأراضي الزراعية، فخطط زيادة الإنتاج النفطي تؤدي بالضرورة إلى حفر مزيد من الآبار وإلغاء مزيد من المزارع والبساتين.
وقال عامر سلمان، مدير مديرية الزراعة في البصرة، إن "القطاع الزراعي في المحافظة أصيب بشلل شبه كامل جراء تصاعد وتيرة المشاريع النفطية بعد تنفيذ عقود التراخيص، التي أبرمتها الحكومة العراقية مع شركات نفطية كبرى لتطوير بعض الحقول".
وأضاف أن "400 مزرعة أُلغيت في قضاء الزبير، في حين تستمر إجراءات إلغاء عقود تأجير الأراضي الزراعية في مناطق متعددة من المحافظة، تمهيداً لتنفيذ مشاريع نفطية جديدة".
ولفت سلمان إلى أن "القطاع النفطي يستحوذ على حوالي 80 في المئة من أراضي البصرة، وحوالي 95 في المئة من أراضي قضاء المدينة، الواقع شمال المحافظة، التي تعتبر أراضي نفطية غير مسموح باستغلالها لأغراض زراعية على الرغم من خصوبتها العالية". وأضاف أن "مجلس الوزراء أصدر في العام 2012 قراراً بخلق حالة من التعايش بين المشاريع النفطية والزراعية حتى لا تؤدي المشاريع النفطية إلى إلغاء أو تعطيل مشاريع زراعية، إلا أن وزارة النفط لم تلتزم تنفيذ القرار".
البطالة من التداعيات
وتتميز البصرة بتنوع أنشطتها الزراعية، التي تحاصرها الحقول والمنشآت النفطية. إذ تنتشر حقول القمح في مناطقها الشمالية القريبة من الأهوار، في حين تقع غالبية بساتين النخيل في مناطقها الجنوبية والشرقية، بينما تضم مناطقها الغربية التي هي امتداد للبادية آلاف مزارع الطماطم.
وأفاد علاء البدران، سكرتير لجنة إنعاش الأهوار في مجلس محافظة البصرة، بأن "من تداعيات تمدّد مساحات المشاريع النفطية أن آلاف المزارعين تركوا مهنة الزراعة، والكثير منهم يعانون البطالة"، مستدركاً أنه "حتى محمية الصافية الطبيعية في هور الحويزة لم تسلم من الأضرار. فهي معطلة لقربها الشديد من حقل مجنون النفطي، وكانت هناك مطالبات من وزارة النفط بنقل المحمية إلى موقع بديل".
وأشار البدران، الذي كان رئيساً لفرع نقابة المهندسين الزراعيين، إلى أن "الأساليب البدائية المستخدمة في عمليات استخراج النفط تلحق أضراراً مضاعفة بالبيئة والقطاع الزراعي، ويمكن الاستغناء عن مساحات واسعة من الأراضي في حال تطبيق أساليب حديثة نسبياً، منها أسلوب الحفر المائل للآبار النفطية"، مؤكداً أنه "في كثير من الدول تُحفر آبار نفطية وسط الغابات وقرب بحيرات وشواطئ ومزارع من دون تدميرها، لكن في البصرة الوضع مختلف".
القانون ينتصر للنفط
تستند وزارة النفط، في هيمنتها على الأراضي الزراعية، إلى قانون الحفاظ على الثروة الهيدروكربونية رقم 84 للعام 1985، الذي يمنحها حق مصادرة الأراضي الزراعية لتنفيذ مشاريع نفطية، بعد تعويض أصحابها بمبالغ مالية. والأراضي المشمولة بالتعويض تلغي وزارة الزراعة عقود تأجيرها وتحجب أشكال الدعم كافة عن أصحابها، كما تقطع وزارة الموارد المائية مياه الري عنها. وما يعمق من المشكلة، أن الوزارة لا تكتفي عادة بوضع اليد على الأراضي التي تريد تنفيذ مشاريع عليها، إنما تحتجز مساحات واسعة من الأراضي القريبة من مواقع مشاريعها وأعمالها أيضاً، وتطلق على هذه الأراضي تسمية "محرمات نفطية".
ووفق الدكتور محسن عبد الحي، معاون عميد كلية الزراعة في جامعة البصرة، فإن "وزارة النفط لو تخلّت عن المحرمات النفطية واستغلت الأراضي التي تحتاجها فعلياً في حفر آبار أو تشييد منشآت نفطية فحسب، لما خسرت البصرة مساحات شاسعة من أراضيها الزراعية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف أن "المشاريع النفطية لا تقتصر أضرارها على تقليص مساحات الأراضي المتاحة للزراعة، فعمليات استخراج النفط تتطلّب ضخّ كميات هائلة من المياه في الآبار النفطية من أجل الحفاظ على الضغط المكمني، والمشكلة أن بعض هذه المياه يؤخذ من حصص المياه المخصصة للزراعة".
وأكد جمال المحمداوي، عضو لجنة النفط والغاز في مجلس النواب العراقي، أن "الأساليب القديمة المستخدمة في استخراج النفط تتطلب استغلال مساحات واسعة من الأراضي. فالمحرمات النفطية هي عبارة عن محرمات حقلية تشمل الحقل النفطي بأسره، وليست محرمات مكمنية تقتصر على مساحة البئر النفطي فحسب".
وأوضح أن "هذه المشكلة أضرّت بالقطاع الزراعي، وصعوبة معالجتها تشريعياً في مجلس النواب تكمن في حساسية القطاع النفطي باعتباره عصب الاقتصاد العراقي، فالأفضلية دائماً للنفط على حساب الزراعة، من دون الأخذ في الاعتبار أن النفط ثروة ناضبة والزراعة ثروة دائمة".
جدير بالذكر أن البصرة تملك أكثر من 55 في المئة من احتياطات العراق النفطية، وتعمل فيها شركات نفطية كبرى، من ضمنها شركات Royal Dutch Shell الهولندية البريطانية وLUKOIL الروسية وExxonMobil الأميركية وBritish Petroleum البريطانية وENI الإيطالية. وتضم المحافظة بعض أضخم الحقول النفطية في العالم، وأبرزها حقول مجنون والرميلة وغرب القرنة، الذي أسفرت عمليات تطويره، العام الماضي، عن مجزرة بحق شجر النخيل في منطقة الهوير. وفي ظل غياب الحلول الجذرية لمشكلة التزاحم والتداخل بين المشاريع النفطية والأنشطة الزراعية في مدينة لطالما عُرفت بوفرة إنتاجها الزراعي وتنوعه، تجاوزت خلال العقود الماضية أكثر من نصف المسافة الفاصلة لتكون مدينة نفطية فحسب.