مر أكثر من 100 يوم على انطلاق الاحتجاجات العراقية، في وقت تستمر قوى السلطة والتيارات السياسية الموالية لها فضلاً عن فصائل مسلحة موالية لإيران، باستخدام كل الوسائل المتوافرة للتشويش على تلك التظاهرات أو إنهائها، التي توجهت منذ انطلاقها بشعارات مطالبة بالعدالة وإسقاط المحاصصة الطائفية والحزبية، فضلاً عن مطالبات رئيسة مناهضة للتدخلات الخارجية في الشأن العراقي.
وسائل التخويف
واستشعرت السلطة والقوى السياسية الموالية لإيران مخاطر استمرار تلك الاحتجاجات التي تطالب بإنهاء نفوذ طهران في العراق، وعملت على إنهائها منذ اليوم الأول لانطلاقها، مستخدمة ذرائع عدة، كان أبرزها أن المحتجين مدعومون خارجياً وتمولهم أجهزة استخبارات أجنبية لإدارة "مؤامرة" على العراق من قبل "أميركا وإسرائيل والسعودية"، فضلاً عن اتهامات بالتخريب وتعطيل الحياة العامة، والحديث عن وجود شخصية "الجوكر المدعوم أميركياً" في التظاهرات، بحسب قادة بعض الفصائل المسلحة.
لكنها لم تتوقف عند حدود الاتهامات، بل قامت مليشيات مسلحة وبعض القوى الأمنية منذ انطلاق الاحتجاجات مطلع أكتوبر (تشرين الأول) 2019، بخلق حالة من الرعب بين المحتجين، بدءاً من القناصين الذين لم تفصح الحكومة حتى الآن عن المتهمين الحقيقيين بتلك القضية، مروراً بالاستخدام المفرط للعنف من خلال إطلاق الرصاص الحي والقنابل الدخانية على رؤوس المحتجين، وليس انتهاءً بعمليات خطف واغتيالات ممنهجة نفذتها جهات تقول الحكومة العراقية إنها "أطراف ثالثة"، بينما يتهم ناشطون فصائل مسلحة موالية لأحزاب رئيسة في السلطة بالقيام بتلك العمليات.
ولعل أدوات قمع الاحتجاجات لم تقتصر على استخدام العنف، إذ يقول مراقبون أن السلطة والفصائل المسلحة الموالية لإيران، سخّرت آلاف الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تحت اسم "الجيوش الإلكترونية" وعشرات القنوات الفضائية، لتشويه الاحتجاجات واتهامها بأنها محركة من استخبارات دول غربية وعربية غايتها "تخريب البلاد وإدارة مؤامرة خارجية فيها".
إدامة الزخم
في المقابل، استخدم المحتجون وسائل عدة لإدامة زخم تظاهراتهم، منذ موجة الاحتجاجات الثانية وبدء الاعتصامات في ساحة التحرير وبقية ساحات الاحتجاج في المحافظات الوسطى والجنوبية في 25 أكتوبر الماضي.
ولعل عمليات القمع الواسعة التي شهدتها ساحات التظاهر كانت واحدة من أهم أسباب إدامة الزخم، إذ اعتمد الناشطون على ترويج صور لقتلى الاحتجاجات، في إشارة إلى أن هذه السلطة تشكل خطراً على مستقبل البلاد، والتحول من التظاهر للاعتصام المفتوح، فضلاً عن تصويب المحتجين على الإخفاقات السياسية المستمرة، آخرها كان جعل العراق ساحة لتصفية الحسابات الأميركية الإيرانية، لدفع المجتمع لرفض تلك السلطة، بحسب مراقبين.
مليونية خارج الاصطفافات
وشهدت ساحات الاحتجاج فتوراً دام لأيام بعد اغتيال رئيس هيئة "الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس وقائد "فيلق القدس" الإيراني قاسم سليماني، وتصدر الصراع الأميركي - الإيراني المشهد العراقي، ما أدى إلى تنامي المخاوف لدى المحتجين من احتمالية أن يكون هذا الصراع هو بداية نهاية احتجاجاتهم، حيث حاولت أطراف عدة توظيف هذا الصراع كجزء من الأزمة، مستغلة هذا المشهد لاتهام الاحتجاجات بأنها طرف مدفوع أميركياً.
وبعد انتهاء الأزمة على الأراضي العراقية وجد المحتجون فرصة لإعادة زخم احتجاجاتهم كما كانت في الأيام الأولى لانطلاقتها.
وأطلق ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، دعوة إلى تنظيم مليونية، أمس الجمعة 10 يناير (كانون الثاني)، هدفها التأكيد على موقف خارج الاصطفافات بين واشنطن وطهران، والتذكير بمطالبهم مرة أخرى، والتي تتلخص بترشيح رئيس وزراء مستقل وحل البرلمان للشروع بانتخابات مبكرة بإشراف أممي، وإيصال رسالة للسلطة بأنهم لا يزالون عنصراً فاعلاً وأساسياً في رسم مستقبل العراق السياسي.
فشل المساعي الإيرانية
إلى ذلك، قال الكاتب والصحافي علي رياض، إن "ساحات الاحتجاج أعلنت أمس الجمعة بوضوح فشل مساعي الأطراف المرتبطة بإيران بإنهاء التحركات، بعد خروج مئات الآلاف إلى الشوارع وإعادة ضخ الدماء إلى شرايين الانتفاضة".
وأضاف لـ "اندبندنت عربية"، "الاحتجاج اعتمد بالأساس على صناعة ردود أفعال ضد أفعال سلطوية وميليشياوية هائلة، كانت هذه الأخطاء هي الأدات الأكبر، ورافقها عفوية التحشيد الجماهيري غير المنظمة، والتي حملت عشرات الوجوه الفنية والسياسية"، مردفاً "كأن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت قنوات وإذاعات حية، معدو برامجها ومحرروها هم المتظاهرون أنفسهم".
وعن الصراع الأميركي الإيراني بيّن رياض أن "إحساس المسؤولية المتنامي تجاه دولة العراق، بدأ مذ أدرك المحتجون أنهم السلطة الفعلية، وأن السلطة الجالسة على مكاتب الإدارة والتشريع خاوية أو عميلة للخارج، وهكذا صارت ردود الأفعال تنتقل من المطالبة بحقوق الشعب إلى المطالبة بحقوق الوطن والدولة".
وتابع "تبادل القصف الأميركي الإيراني على الأراضي العراقية، وحديث السلطة الخالي من الحياء والخجل عن السيادة العراقية، حمّل المحتج العراقي مسؤولية جديدة، قد تبدو سريالية أو فانتازية لأي متابع خارجي للشأن العراقي، هي مسؤولية الدفاع عن سيادة العراق".
ولفت إلى أن "ما يثبت ذلك هو الشعار الذي رفع لتظاهرة الأمس وهو (1/ 10 ردنا الوطن... 10/ 1 الوطن رادنا"، وبهذه الصيغة شعر المحتجون أن هناك نداءً خفياً من العراق الدولة لهم لينصروه".
تصعيد احتجاجي مرتقب
قال أستاذ العلوم السياسية قحطان الخفاجي إن "مساعي القوى القريبة من طهران قد فشلت بالتشويش وإنهاء التظاهرات بذرائع الصراعات الإقليمية والدولية"، مبيناً أن "الشارع العراقي أثبت مواقفه في التصدي لكل المشاريع الخارجية وبيَّن هويته الوطنية الحقيقية أمام كل المشككين بها".
وأضاف لـ "اندبندنت عربية"، "منذ بدء الاحتجاجات ذهبت تلك القوى السياسية لاتهام الحراك الشعبي بأن دوافعه وتمويله خارجيان، لكن الصراع الذي تأجج أخيراً بين أميركا وإيران وموقف المحتجين منه، أثبت بطلان تلك الحجج".
ورجح الخفاجي استمرار الاحتجاجات لحين تحقيق مطالبها، لافتاً إلى أن "الاحتجاجات قد تشهد تصعيدأ في الأيام المقبلة للتعجيل باختيار رئيس وزراء مستقل وإقامة انتخابات مبكرة وقد تحظى بدعم كبير من المجتمع الدولي".
وتابع أن "القوى القريبة من إيران ستعيد محاولات إنهاء الاحتجاجات، لكن وعي المحتجين أثبت قدرته على احتواء تلك المحاولات والهجمات الواسعة، واستطاع تبيان هوية الحراك الوطنية".
وعن حديث المرجعية في النجف بخصوص "الغرباء" في العراق، بيَّن الخفاجي أن "المرجعية أحرجت تلك القوى إلى حد ما، لكنها لطالما أولت كلام المرجعية لصالحها".
ذي قار... زخم كبير ودعوات إلى الإضراب
الاحتجاجات في الناصرية مركز محافظة ذي قار، استعادت زخمها بينما تتزايد الدعوات الشعبية إلى الإضراب العام، لعدم تحقيق مطالب الحتجين، والمماطلة في ترشيح رئيس وزراء مستقل غير جدلي، فضلاً عن حوادث الاغتيالات والتقصير الأمني، بحسب الناشط علي الركابي الذي قال "انعكاس الأزمات السياسية أو الصراعات في داخل العراق لم تؤثر في الاحتجاج، بل إنها عوامل تحفيز له وتذكير بأن الطبقة السياسية الحاكمة جعلت العراق ساحة صراع دولي"، مبيناً أن "المطلب الرئيس هو أن يكون العراق مستقلاً ذا سيادة".
وتابع "قوى السلطة ومنذ انطلاق الاحتجاجات، تحاول جر المحتجين إلى خانة الصدام، لكن تلك المساعي فشلت ولا تزال الاحتجاجات سلمية على الرغم من القمع والقتل المستمر للمحتجين بين الحين والآخر في ذي قار"، مردفاً "الثوار كانوا يتوقعون هذه السيناريوهات ولم ولن يتراجعوا".
مشروع أخير
ويتخوف الناشطون في الحراك الاحتجاجي من مغبة إنهاء تظاهراتهم وانتصار السلطة عليهم، بحيث يرون أن هذه هي الفرصة الأخيرة التي يحظون بها مقابل السلطة الحالية التي يشكل بقاؤها بالنسبة للمحتجين مأزقاً كبيراً، ما خلق دافعاً كبيراً لاستمرار تلك الاحتجاجات إلى أكثر من 100 يوم.
إلى ذلك، قال الناشط مهتدى أبو الجود، إن "الاحتجاجات قد تجاوزت يومها الـ 100، وقد راهن الكثير على إنتهائها في أول شهر لها، لكن العراقيين يعتبرون مشروع انتفاضة تشرين هو مشروعهم الأخير للخلاص من هذه الطغمة السياسية".
وأضاف "هذا المشروع هو الذي أدى إلى استمرار الإضراب الطالبي حتى الآن، فضلاً عن الحركة المربكة في الشوارع وعزوف الناس عن أداء عملهم وجلوسهم في خيم الاعتصام".
وتابع "الاحتجاج يمر في بعض الأوقات بتراجع أو ركود، لكن هذا لا يعني بأنه قد انتهى، وقد رأيتم الأعداد يوم أمس، كانت هذه الأعداد رداً كافياً ووافياً على من يشكك في جدية هذه الانتفاضة".
الاحتجاج فعل سياسي
وعن تأثير الصراع الأميركي - الإيراني على الاحتجاجات بيّن أبو الجود، أن "هذا الصراع كان له تأثير في الساحات، لكنه أظهر معدن الشباب الوطني، وبعدهم عن ثنائيات الوهم القبيحة التي تقول: إما أن تكون إيرانياً أو أميركياً"، لافتاً إلى أن "رد الشباب في ساحات الاحتجاج كان واضحاً حين رفعوا شعار (أميركا وإيران وجهان لعملة واحدة)".
وأشار إلى أن "جيل الأول من أكتوبر هو جيل الأنا الوطنية، وهو من سيحدد مستقبل العراق المستقل".
وفي السياق ذاته، يقول الأكاديمي والناشط عمار الربيعي "بما أن الاحتجاجات هي فعل سياسي فبالتأكيد كل الأزمات السياسية الأخرى ستؤثر في الحراك، خصوصاً أن ساحات الاحتجاج تحمل أكثر من رأي بخصوص السياسية الخارجية وحتى الداخلية".
وتابع "بعد الهدوء الحذر على الساحة الإقليمية عاد الحراك بزخم كبير وقوي للضغط أكثر من أجل تحقيق المطالب المشروعة".
وتستمر عمليات القمع التي تمارسها السلطات العراقية بحق المحتجين، كان آخرها عمليات القمع الواسعة التي شهدتها محافظة البصرة يوم أمس الجمعة، فضلاً عن استمرار عمليات الخطف والقتل التي طالت ناشطين وصحافيين، كان آخرها عملية اغتيال مراسل قناة دجلة في البصرة أحمد عبد الصمد والمصور صفاء غالي، في محاولة لترويع المحتجين. مع الإشارة إلى أن حصيلة ضحايا الاحتجاجات ارتفعت إلى حوالى 600 قتيل وأكثر من 25 ألف جريح.