ينصب اهتمام مؤسسات عدة في العالم العربي على الترجمة إلى العربية من لغات عدة، أهمها الانجليزية والفرنسية، فيما لا تحظى الترجمة العكسية باهتمام مماثل، على رغم أهميتها، خصوصاً في الأدب الذي لا غنى عن الطموح إلى انتشاره على أوسع نطاق إنساني ممكن.
ولا تنفي هذه الملاحظة جهودا واضحة أعقبت فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الأدب، في اتجاه الترجمة من العربية، ومن أبرزها جهود قسم النشر بالجامعة الأميركية بالقاهرة، وجهود جائزة البوكر وغيرها من الجوائز التي تتضمن ترجمة العمل الفائز إلى الانجليزية، باعتبارها اللغة الأكثر انتشاراً في العالم، فضلاً عن جهود دور نشر في فرنسا وإيطاليا وانجلترا وأسبانيا وألمانيا والصين في هذا الصدد.
أما الجهود المحلية في هذا الشأن، في مصر، على سبيل المثال، فلم تحقق المرجو منها حتى الآن، فالهيئة المصرية العامة للكتاب، وهي أكبر دار نشر حكومية في العالم العربي، تولت اصدار أعمال أدبية وفكرية عربية بعد ترجمتها خصوصاً إلى الانجليزية (غالبيتها تمت بواسطة الدكتور محمد عناني)، لكنها لم تجد لدى الجمهور المستهدف اهتماما يذكر.
أما "المركز القومي للترجمة" في مصر أيضاً، فلم ينجز منذ تأسيسه في العام 2006 أي ترجمة مِن العربية إلى الأجنبية برغم أن هذا النشاط هو ضمن أهداف إنشائه. وفي هذا الصدد سبق أن صرح مدير المركز نفسه الدكتور أنور مغيث بأنه يجب على وزارة الخارجية أن تضع ميزانية غرضها الترجمة العكسية، بما أن الميزانية المخصصة للمركز من جانب وزارة الثقافة تكفي بالكاد الترجمة من لغات مختلفة إلى العربية.
ويضيف مغيث: "الترجمة مِن العربية إلى لغات أخرى هي ضرورة حتمية، وعلى المؤسسات الرسمية أن تلعب دورها بالدفع نحو تغيير الصورة السلبية عن مصر والعرب. الترجمة هى الوسيط للوصول للأخر، وما يعنينا الآن هو كيف يمكن تحقق ذلك، خاصة في ظل عدم وجود ميزانية بالمركز القومي للترجمة تغطي تكاليف هذا المشروع".
لكن المركز يلعب في هذا الصدد دوراً مهماً، يتمثل في ترشيح أعمال لتترجمها دور نشر أوروبية من العربية إلى لغات عدة. ويقول مغيث في هذا الصدد: "نحتاج إلى اختراق فكرة المترجم الاستشراقي الذي يأتي من دون دعم منا، خاصة أن ما يتم تقديمه عبرالترجمات الاستشراقية، صورة سلبية عن العرب، باختيارات لأعمال تكرس الصورة النمطية الشائعة عنا كعرب. هدفنا هو تحطيم وكسر تلك الصورة وتغييرها عبر الأدب والإبداع والفكر. يمكننا تكريس لصورة ايجابية عبر دعم ترجمة الإبداع من العربية إلى لغات أخرى".
ويضيف مغيث: "كخطوة أولى ومبدئية، في هذا الصدد، علينا الاهتمام بترجمة أعمال كبار مفكرينا، مثل طه حسين وجمال حمدان وأحمد أمين وغيرهم، أما عن الكُتَّاب المعاصرين واختياراتهم، فالأمر يمكن أن يتم مِن قِبل لجنة من كبار المثقفين".
اختلاف وتنوع
في هذا السياق استطلعت "اندبندت عربية"، آراء عدد من المترجمين حول ما يعيق الترجمة من العربية، باعتبارها إحدى اللغات المعتمدة لدى منظمة الأمم المتحدة.
البداية كانت مع وزير الثقافة المصري السابق الدكتور شاكر عبد الحميد فهو يقول: "ينبغي الاهتمام بترجمة الكتاب العربي إلى اللغات الأوروبية وغيرها من اللغات. تنبغي ترجمة المنجز الأكاديمي العربي في العلوم الاجتماعية إلى اللغات الحيَّة الأساسية، بل وأيضاً إلى اللغات الشرقية كالصينية واليابانية وغيرهما. وتمثيلاً لا حصراً، هناك منجز عربي كبير في الرواية خلال الثلاثين عاماً الماضية، وهناك أيضاً منجز في القصة القصيرة وفي الدراسات النقدية كان ينبغي أن تقوم المؤسسات الثقافية العربية بفتح أبواب التواصل والعلاقات الثقافية الخارجية من أجل ترجمة هذه الأعمال. هناك كذلك مجهودات بارزة في السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة لم يتم الاهتمام بها على نحو مناسب. إن الترجمة تقوم على أساس الحوارية الثقافية، وهكذا نزداد معرفةً بأنفسنا وفهماً لها، ونزداد كذلك معرفة بالآخر وفهماً له، ونزداد تقبلاً لذواتنا وتقبلاً للآخر كذلك، ونقيم صلات قوية بين الأنا والآخر، بحيث يمكن أن تضع الذات نفسها مكان الآخر، ويضع الآخر نفسه مكان الذات. وتقوم في الوقت نفسه بتعديل صورتها عن الآخر، وصورة الآخر عنها، ومن ثم صورتها عن نفسها أيضاً، وهى صلات تقوم في جوهرها على أساس الإقرار بالاختلاف والتنوع، وكذلك إمكانية التعايش والتفاعل والتكامل والوحدة، في ظل هذا الاختلاف والتنوع والتمايز أيضاً".
ندم وأسف
وائل فاروق أستاذ الأدب العربي في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو يقول في هذا الصدد: "أول ما يتبادر إلى ذهني عند الحديث عن ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأوروبية هو ما يبدو على طلابي الذين شجعتهم على الاشتغال بالترجمة، من فقر، وما يبدونه من ندم وأسف لتصديقهم ما قلته عن الأهمية الحضارية والاقتصادية والسياسية للغة العربية. فلم يتخيل أي منهم أن اللغة الرسمية لاثنين وعشرين دولة ثرية مادياً وحضارياً ستكون بهذا "اليتم"، وأن حركة الترجمة منها وإليها ستكون هزيلة إلى الدرجة التي تجعل عدداً قليلاً منهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة فقط، يحترف الترجمة ويعيش منها، وهم في سبيل ذلك يستسلمون لشروط الناشرين في اختيار أعمال تُرسِخ الصورة النمطية للثقافة العربية ومجتمعاتها في الماضي والحاضر".
ويضيف:"أَدخَلَ فوزُ نجيب محفوظ بجائزة نوبل تخصصَ الأدب العربي في الجامعة ولكنه أخرجه أيضاً مِن دائرة المتخصصين في الأدب، بحيث التفت الناشرون إليه وبدأوا في طرحه للجمهور العام. هذا ما يؤكده أرشيف المؤسسات المعنية بالترجمة والنشر في بعض البلدان الأوروبية، بحيث مثَّل العام 1988، عام نوبل محفوظ، بداية منحنى يصعد باضطراد في ترجمة ونشر الأدب العربي ولا سيما القصة والرواية. ليس انتشار الأدب العربي دليلاً على عالميته، بوصفه خالقاً للعالم، الأدب العربي معولم، لأن انتشاره خاضعٌ بشكل أساسي لقواعد السوق والاستهلاك السريع. وليس في كلامي هذا أي مبالغة، فلحظة المد الثانية في انتشار الأدب العربي في الغرب كانت الحادي عشر من سبتمبر ولم يكن بطلها هذه المرة كاتباً وإنما إرهابياً هو أسامة بن لادن. تم حينذاك استدعاء الأدب العربي لإشباع فضول لحظة "الحدث" الذي سرعان ما فتر مع انشغال العالم بحدث آخر في مكان آخر. ثم عاد الاهتمام مع عودة العالم العربي إلى صدارة نشرات الأخبار إليه مع حدث مثل "الربيع العربي"، لنظل رهن هذا الاستدعاء الاستهلاكي، ليتقزم الأدب العربي وكاتبوه من منتجين للمعنى وللمعرفة الجمالية التي تدفع بالوعي الإنساني نحو قيم الخير والحرية والعدالة، إلى مجرد شاهد عيان على واقع غرائبي يقوم بالتبرؤ منه. لقد تحولت أوروبا بالنسبة لبعض المثقفين العرب من أفق جمالي يتحاورن ويتفاعلون معه لإنجاز طرحهم الجمالي إلى جمهور علينا الانتباه إلى حاجته للتسلية بغرائبيتنا السياسية، حيث الكتابة عن عوالم الدكتاتورية، أو الحريم، أو المثلية، أو غيرها مما يشيع الاهتمام به في وسائل الإعلام الغربية. يكفي أن نلقي نظرة على أغلفة الكتب والفقرة التي تقدم بها دار النشر الكتاب على ظهر الغلاف لندرك طبيعة السلعة التي يتم الترويج لها. ترجمة الأدب العربي، على ضآلة حجمها، رهينةُ ما يقع من أحداث ساخنة، أما المساحة التي غزاها في الجامعة فلم تعد تهتم به كأدب ولكن كمادة للبحث في سياق علوم أخرى كعلم الاجتماع والأنثروبوجيا.والخوف أن تظل ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأوروبية رهينة السوق والهوى والسياسة.
سمير جريس المترجم عن الألمانية يقول: "تحاول بعض الجهات العربية دعم ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى، وهذا من الأهداف الأساسية لجائزة البوكر العربية مثلاً، وأيضا جائزة نجيب محفوظ التي تقدمها الجامعة الأميركية بالقاهرة. لكني أعتقد أن هذا ليس كافياً. وربما يكون الطريق الذي تنتهجه بعض الجهات الأجنبية لتشجيع ترجمة أدبها طريقاً جيداً، أعني أن تقدم الهيئات الثقافية الدعم لدور النشر الأجنبية التي تقوم بترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى. وأعتقد أنه من غير المجدي أن تقوم الهيئات العربية بتكليف المترجمين مباشرة وتقديم دعم للترجمة. هذا دورٌ يجب أن يقوم به الناشر الأجنبي حتى نضمن التوزيع الجيد في دور نشر لها اسمها وسمعتها. وأخيراً تنبغي ملاحظة أن الأدب العربي المترجم يُنشَر في دور صغيرة مجهولة لا توزع طيلة العام سوى عشرات النسخ".
... ولو في الصين
أحمد السعيد المترجِم عن الصينية يقول: "يُقدّر حجم التبادلات في مجال النشر والترجمة بين الصين والدول العربية خلال الست سنوات الأخيرة بأكثر من ألف عنوان شاركت فيها أكثر من 30 دار نشر عربية بالتعاون مع أكثر من 70 ناشرا صينياً، وتنوعت مضامين المؤلفات بين السياسة والاقتصاد والتاريخ والأدب والثقافة العامة وكتب الأطفال، وتلك الأخيرة تحتل الرصيد الأكبر ضمن مشاريع التعاون. وقد برزت اخيراً ترجمة اعمال عدة للشاعر ادونيس ولقيت ترحاباً ملحوظاً. ومما لا شك فيه أن الدور الإماراتي في هذا المضار هو دور حيوي ومؤثر وداعم، حيث مثلت مشاركة الإمارات كضيف شرف لمعرض بكين، فاتحة وبوابة لدخول الكتاب العربي بشكل قوي في السوق الصيني، كما أن مشاركة الصين كضيف شرف في معرض أبوظبي كان الحدث الثقافي الأكبر في تاريخ التبادلات الصينية العربية في مجال النشر والثقافة بشكل عام، حيث شاركت الصين بجناح يصل لألف متر مربع وجلبت ضمن وفدها الرسمي أكثر من 70 ناشرا صينيا ونخبة من أفضل وأشهر كتاب وفناني ومثقفي الصين، كما تعاونت جهات صينية وإماراتية في تأسيس أول دار نشر عربية صينية مشتركة في أبوظبي في عام 2017، ثم دشنت الصين رفاً ثابتاً للكتب الصينية في مكتبات أبوظبي، وتعاقدت دور النشر الإماراتية والصينية على إصدار أكثر من 100 عنوان. وكانت الإمارات حاضرة ضمن مشروع الدولة الصينية لتبادل الترجمة والنشر بين الصين والدول العربية بعملين مميزين تُرجما إلى الصينية وهما "نهار الظباء" للدكتورة فاطمة حمد المزروعي، و"غرفة واحدة لا تكفي" لسلطان العميمي".
ويضيف:"منذ تأسيسها وحتى الآن، تتعاون مؤسسة "بيت الحكمة" الصينية مع أكبر كيانات النشر والثقافة بالمنطقة العربية، فهي شريك استراتيجي لاتحاد الناشرين العرب واتحادات النشر الإقليمية بالدول العربية مثل مصر والسعودية وتونس والهيئة العامة المصرية للكتاب ومكتبة الإسكندرية، كما تتعاون مع أكثر من 75 دار نشر صينية في تعريب ونشر أكثر من 500 عنوان من الصينية للعربية، وأكثر من 50 عنوانًا من العربية للصينية".