تنبأتُ قبل نهاية 2019 بأسبوعين بأن الساحة الليبية قد تكون أولى الساحات المشتعلة بالمعارك الإقليمية بالشرق الأوسط في العام الجديد، بعد توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين تركيا وحكومة السراج، ورفع وشخصنة الوجود التركي في ليبيا، ما يشكل تصعيداً سياسياً وأمنياً سيصعب السكوت عنه، خصوصاً من قِبل أطراف إقليمية وجيران ليبيا، مهما تريثت وتمهلت في تقييم الموقف لتجنُّب التدخل العسكري، الذي تنظر إليه تقليدياً بحذر شديد، لأن صدارة تركيا الموقف في ليبيا يشكل تهديداً لأمنها القومي، لاختلاف السياسات وتعارض الرؤى والتوجهات بالنسبة إلى حاضر ومستقبل الشرق الأوسط.
وفجأةً توتّرت ساحة المواجهة الأميركية الإيرانية بعد أحداث العراق، بما في ذلك قتل أحد العاملين الأميركيين، ثم قذف مطار بغداد، وقتل قاسم سليماني وعدد من مرافقيه، الذي أعقبه تبادل التصريحات النارية بين إيران والولايات المتحدة، لتتنافس هذه الساحة مع ليبيا على مكان الصدارة، لمن ستكون أولى المعارك المشتعلة عام 2020.
ومن الملفت للنظر أن أردوغان برر تحرّكه باعتبارات واهتمامات أمنيّة، وكذلك حقوق تاريخية، باعتبارها آخر الساحات التي فقدتها الإمبراطورية العثمانية، وهي حججٌ غريبةٌ وطريفةٌ، فبالمنطق نفسه يحق لبريطانيا الدفع بأن لها حقوقاً تاريخية بالولايات المتحدة، وفي ساحات عالمية عديدة غرباً وشرقاً، كانت في مراحل مختلفة جزءاً من بريطانيا الكبرى.
أعتقدُ أن الرئيس التركي أردوغان يعلم جيداً استحالة إعادة كتابة التاريخ، وأن أقصى ما يمكن التطلع إليه واقعياً من هذا التصعيد إثبات أنه طرفٌ فاعلٌ في شمال أفريقيا، نكاية في السياسة المصرية والمساس بأمنها القومي من خلال خلق منطقة مضطربة على حدودها.
ودافعُ تركيا الثاني هو تدعيم مركزها التفاوضي المستقبلي فيما يتعلق بالتنقيب والاستفادة من اكتشافات الغاز والبترول بشرق البحر الأبيض المتوسط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الوضع في الساحة الإيرانية ليس أقل خطورة أو تعقيداً، وعند صياغة المشروع الأول لهذا المقال ذكرت فيه أن استهداف الولايات المتحدة قائداً إيرانياً عالي المستوى والمسؤول عن السياسة الإيرانية بالمشرق سيفرض على القيادة الإيرانية اتخاذ إجراء عسكري ضد أميركا، رغم أنه لا خلاف أو شكّ في أن أي مواجهة عسكرية أميركية إيرانية ستنتهي حتماً في صالح الولايات المتحدة، والكل يعلم هذا بمن في ذلك الإيرانيون أنفسهم.
لهذه الأسباب توقعتُ أن يكون هناك ردٌ، يبدأ بمواقف سياسية مثلما شاهدنا في الإعلان الخاص بعدم الالتزام بالقيود الخاصة بدرجات التخصيب التي حُددت في إطار الاتفاق النووي، ثم يستهدف مواقع أميركية عسكرية دون التعرض إلى مواطنين أميركيين لتكون الخسائر مادية بالطبع، وتسمح لترمب باستيعابها دون تصعيدٍ جديدٍ، وبعدها قد تكون هناك أهداف ومواقع غير أميركية في دول عربية صديقة حسب التطورات وفي ضوئها.
وكان على إيران تقييم مواقفها بحساسية ودقة متقنة، فخيارُ عدم الردّ لم يكن مطروحاً في ضوء المقام الأمني والعسكري للشخصية التي قُتلت، والردُّ العسكريُّ المبالغ فيه ضد أهداف أميركية تشمل خسائر في الأرواح سيُردُّ عليه عسكرياً وبقوة، ويحمِّل إيران حتماً خسائر ضخمة هي في غنى عنها.
أقل ما كان يمكن توقعه وبثقة هو أن المنطقة ستشهد صداماً في إحدى الساحتين على المدى القريب، وإن كان من الصعب الانتهاء بدقة إلى الساحة التي ستشتعل أولاً، أو حتى أسلوب المواجهة ونطاقها، وحتى قبل الموافقة على اتفاقيات الدفاع المشترك أرسل أردوغان خبراء عسكريين وأسلحة وعدداً من الطائرات دون طيار (درونز)، لمساعدة حكومة السراج ضد قوات خليفة حفتر، التي كانت مُسيطرة على شرق ليبيا قريبة من طرابلس، ويحظى بدعم الإمارات ومصر والسعودية وروسيا وآخرين.
وكما شملت المساعدات التركية نقل عددٍ من المرتزقة ذوي الصلة والعلاقات الخاصة مع تركيا من المشرق إلى ليبيا، ويُنتظر أن تستمر تركيا في توفير الدعم لحكومة السراج، وأن تطوّره تدريجياً، مع العمل على تجنّب تعرض قواتها مباشرة إلى مخاطر كثيرة، إضافة إلى ضبط حساباتها السياسية بعنايةٍ ودقةٍ إزاء الاعتبارات المُختلفة بما ذلك مع الولايات المتحدة وروسيا.
وقبل مثول المقال للنشر، أطلقت إيران صواريخ ضد قاعدة أميركية في أربيل، وكذلك قاعدة الأسد الأقرب إلى بغداد، وهي عمليات جرت حسب التقديرات الأولية دون خسائر بين الجنود الأميركيين.
وبهذه العملية حافظت إيران على مصداقيتها داخلياً، بحساب دقيق قد يجنّبها ردود فعل أميركية عنيفة، وأكدت ثقلها بالعراق، وأعادت مركزيتها طرفاً فاعلاً حتى وإن كان مشاغباً في معادلة السلام الدولية والأمن.
ويوجد بالغ الأهمية، فالساحة الأميركية كذلك يدخل فيها اعتبارات أمنية وسياسية ودولية وإقليمية، ولا تخلو من اعتبارات الأوضاع الأميركية الداخلية، خصوصاً الحملة الانتخابية الرئاسية، وجهود الحزب الديموقراطي لعزل الرئيس، ويبدو هذا واضحاً في تصرّفات ورسائل ترمب نفسه، فبعد أن فاجأ مساعديه باختيار بديل استهداف سليماني بدلاً من خيارات أخرى، سارع إلى إصدار تصريحات متضاربة عن وجود ترتيبات لاستهداف أكثر من 50 موقعاً إيرانياً في حالة استمرار التصعيد، بما في ذلك بعض المواقع الثقافية، ما أثار مساعديه وكثيراً من حلفائه، ثم وبعد استهداف إيران القواعد الأميركية أعلن أن "كل شيء على ما يرام"، وأنه "لا يريد التصعيد الجديد".
هذا ومن الأهمية التنويه مرة أخرى إلى أن ترمب رئيسٌ غير تقليدي، يقرر الأمور بشكل عفوي، ويميل إلى المبالغة في القدرات والإنجازات، ويتريث في نشر القوات الأميركية خارج الحدود، خصوصاً البرية منها، كلما أمكن تجنّب ذلك.
وفي هذا السياق وفي هذه المرحلة، لا أتوقع تصعيداً إيرانياً جديداً مباشرة ضد الولايات المتحدة، وهو ما أوحى به وزير الخارجية الإيراني، لن نشهد تهدئة إيرانية في السياسات الإقليمية، بل أتوقع أن تكشف الجهود تأكيد ثقلها ونفوذها الإقليمي سياسياً وأمنياً، بنية إخراج الولايات المتحدة أو تقليص نفوذها بالمنطقة.
توترات في ليبيا تتصاعد، وأخرى خاصة بإيران، تحمل مخاطر جمّة على الأمن الوطني والإقليمي، وربما تتصاعد في أي لحظةٍ عن عمد، أو لسوء التقدير أو بالخطأ. وضعٌ لا يمكن إلا التعامل معه بحذرٍ شديدٍ وقلقٍ بالغٍ.
كل هذا ولم تمر سوى أيام قليلة من العام الجديد، فهل هو مؤشر لعواصف وإخطارات مقبلة أم يكون التصعيد حافزاً للحكماء؟ وهم قلائل من الساحة الدولية بالمنطقة، لمراجعة المواقف وتفصيل الجهود المحلية والدبلوماسية، للتوصل إلى حلول سياسية لقضايا قابلة للحل في حالة احترام علاقات حسن الجوار وسيادة الدول.
وهنا تجدر الإشارة إلى اللقاء الذي نظّمته إيطاليا لحفتر والسراج، وتبادل التصريحات الأميركية والإيرانية عن تجنّب التصعيد، وتحذير الدول العربية الخليجية من مغبة الحروب الجديدة وتفضيلها العمل الدبلوماسي.
ليبيا أم إيران، صدامات عسكرية أو بداية جهود دبلوماسية بعد التوتر والتصعيد، أسئلة محيرة وخيارات أفضل واضحة.