للوهلة الأولى، قد ينسى الزائر لمطحنة بريك في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية ما الذي دخل ليشتريه، قهوة عربية أصيلة أم بهارات وأعشاب طبية نادرة، أم لأخذ صورة تذكارية إلى جانب تحفة فنية فلسطينية فريدة يزيد عمرها عن 100 عام؟ فبين أزقة المطحنة، تفوح رائحة الزعتر الممزوج بالصابون النابلسي الشهير، وتزدحم القصص والصور، فكل شيء هنا له حكاية وتاريخ، وطعم يصعب تقليده.
من قديم الى أقدم
عائلة بريك التي بدأت بصناعة القهوة والتوابل منذ عام 1936، لم تكتف بإسعاد المتذوقين والمشترين، بل عمدت إلى توثيق الرواية الفلسطينية من خلال عملها، فسارعت عام 1990 إلى ترميم صبانة (مكان صناعة الصابون التقليدي) قديمة ومهملة تعود للزمن العثماني، عمرها يزيد عن 400 عام، وتقع فوق سبع آبار للمياه. فما إن انتهت أعمال الترميم حتى تحول المكان الذي كان يعج برائحة الصابون، إلى متحف فلسطيني يضم أكثر من 170 قطعة أثرية و200 نوع من الأعشاب الطبية والعطرية والتوابل. باسل بريك (57 عاماً) صاحب مطحنة بريك، تحدث لـ "اندبندنت عربية "، عن حبه "للتراث الفلسطيني والقطع الأثرية النادرة منذ صغري دفعني لربط المهنة بالشغف في مكان واحد، فتجولت بين المدن والقرى الفلسطينية وبين بلاد الشام والأردن، لجمع تلك القطع الفنية والتراثية، حتى وجدت نفسي محاطاً بها فقررت وضعها في مكان مخصص داخل المطحنة. ولأن المبنى قديم جداً والقطع كذلك، ظهر المكان بالفعل كما المتاحف، أينما تدير وجهك تجد الكثير من القصص والأسرار عن تاريخ حياة الفلسطينيين ما قبل النكبة عام 1948."
متحف تراثي
وتحتضن المطحنة التي تتوسط حارة الياسمينة في البلدة القديمة في نابلس، آلات طباعة أثرية وهواتف قديمة وبعض المطرزات الفلسطينية، إضافة إلى القشيات (صناعات من القش) وأدوات فخارية وزراعية، وأدوات الطبخ جنب ماكينات الخياطة القديمة، التي كانت تستخدم بشكل واسع في البيوت الفلسطينية. كما وتضم المطحنة في أغلب زواياها الأثاث الفلسطيني الذي استُخدم في أوائل القرن الـ20 وحتى نكبة عام 1948، ومجموعة من الحلي الشعبية الفلسطينية من القلائد والأساور والخواتم بمختلف أنواعها.
ويقول بريك، "وجود متحف للتراث داخل مطحنة للقهوة والأعشاب والتوابل، يوصل رسالة مهمة داعمة للهوية الوطنية الفلسطينية على الصعيدين المحلي والعالمي. فهنا يحضر السياح الأجانب باستمرار، لذلك قمنا بجهد شخصي لإعداد خريطة سياحية تدل الزائرين على مكاننا داخل البلدة القديمة، وجميعهم من دون استثناء يُدهشون من جمال المطحنة وعراقتها وقدمها. فالمقتنيات التاريخية داخلها والتي يعود تاريخها لمئات السنين، تؤكد وبقوة على أحقية الفلسطينيين بالأرض، وهي السلاح الذي يحارب به الفلسطينيون في سبيل الترويج للهوية الحقيقة بصورة مشرفة أمام العالم، حتى أن دليل السياحة الإيطالي قد سجّل مطحنة بريك كأحد الأماكن التاريخية الفلسطينية التي تُزار في مدينة نابلس، ونسعى مستقبلاً لاقتناء المزيد من القطع الأثرية على الرغم من أسعارها الباهظة في كثير من الأحيان وذلك لندرتها، ونرفض بشكل قاطع بيع أي من محتويات المتحف".
الحكومة لا تكترث
مزيج فلسطيني تراثي مميز، تجلى بقدرة عائلة بريك على الجمع بين حرفة تقليدية شعبية وحب اقتناء التحف الأثرية الفلسطينية والعربية، التي تحمل الكثير من القصص والحكايا في مكان واحد، يلفت انتباه وشهية المارة من أمام بابه. ودبت الحياة من جديد في صبانة الخماش (عبد الحق) بعد عقود من الانهيار والخراب الذي عشش بين جنباتها ودفع بساكنيها للنزوح عنها.
معالم أثرية مهملة
ويكمل بريك "كل الترميم الذي قمنا به منذ عام 1990 كان على حسابنا الخاص، إذ لم تلتفت إلينا أي مؤسسة فلسطينية تُعنى بالتراث أو الترميم أو أي جهة حكومية لمساعدتنا في إحياء المكان الذي يمتد عمره لأكثر من 400 عام، ويحتاج إلى تكلفة مادية باهظة، خصوصاً وأن مواد الترميم تُستورد من الخارج وتحتاج الى أيد عاملة مختصة في المباني القديمة، وكنا حريصين على إبقاء معالم مصنع الصابون على حاله كبيت النار والمفرش (مكان فرد الصابون السائل) ومكان طبخ الصابون، حتى لا تفقد الصبانة ملامحها. وعلى الرغم من أن المطحنة أصبحت أحد معالم المدينة ووجهاً للسياح، لم يخطر على بال وزارة السياحة الفلسطينية تطوير أو تحسين أي شيء ولا حتى المساعدة الفنية في توسيع المتحف أو إدراجه ضمن الخريطة السياحية الفلسطينية كمعلم أثري يستحق الزيارة. للأسف غياب الدعم الحكومي وقلة الاكتراث بالأماكن التاريخية والأثرية وأهمية الترميم لتلك المواقع، قد يفقد المدينة معالمها مع الزمن، وكثير من تلك الأماكن كالصبانات والمدرجات الرومانية وغيرها من المعالم، أصبحت مكبات للنفايات بسبب قلة الوعي وعدم الاهتمام بقيمتها التاريخية".