صار الجميع عالماً ببواطن الأمور. وأصبح الكل فقيهاً في شؤون الطب والهندسة والمسرح والسباكة والنجارة والتجارة، ناهيك بأساليب الإدارة وفنون العمارة وأنواع العطارة. حتى نظام التعليم الجديد يُنصّب البعض أنفسهم عالمين بجوانبه ملمّين بأركانه ومعدّلين على خبرائه. ولم يسلم عالم السيارات من هجمة المعرفة الشرسة وغزوة التحليل والتوجيه والتفنيد.
مجموعات مشاكسة ينوء بحملها تطبيق "واتس آب"، ويرزح تحت وطأتها الملايين. منهم من يستيقظ من نومه صباحاً ليجد نفسه عضواً في مجموعة "خلّيها تصدّي"، ومنهم من يخلد إلى فراشه ليلاً وهو ضمن مجموعة "معاً ضد العنصرية" ليصحو وقد أصبح عضواً في "خلّيها تعفّن" أو "كباريه الوردة الحمرا" أو "معاً لمناهضة الغباء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وسواء كان العضو لا تعنيه "اللحمة"، التي يطالب "أدمن" المجموعة بمقاطعة شرائها حتى تفسد وتتعفّن لدى القصّاب، أو ليس ضالعاً في شؤون الكباريه أو وردته الحمراء، أو لا يشغله موضوع الغباء وسبل مناهضته، فإن الحضور ضمن مجموعات "واتس آب" قضاء، واستقبال الرسائل قدر.
القدر اليوميّ لا يمهل نحو 34 مليون مصري (مجموع عدد مستخدمي الإنترنت عبر المحمول بحسب تقرير مؤشرات قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الصادر عن وزارة الاتصالات قبل أيام) عن الضلوع في مجموعات لا أوّل لها أو آخر على تطبيق "واتس آب". هذا التطبيق الذي ابتكره كل من بريان آكتون ويان كوم في عام 2009 حتى لا تفوتهما مكالمات الأصدقاء في أثناء انشغالهما بعيداً عن هواتفهما الذكيّة تحوّل إلى تطبيق عليه قدر هائل من "الهبد والرزع"، بحسب مصطلحات السوشيال ميديا المصرية، وكمّ لا أوّل له أو آخر من السلوكيات التي ربما لا تطرأ على بال.
إني أغرق ...أغرق
"منذ اقتنيت هذا الهاتف قبل نحو عام، وبالي لم يهدأ وعيني لم تنعم بنوم هادئ. أنا عضو فاعل في ثماني جروبات (مجموعات) على واتس آب. العائلة، ومديرو العمل، وزملاء العمل، وسكّان العمارة، وأصدقاء المدرسة، وأصدقاء الجامعة، ومحبو فريد الأطرش، وأولياء أمور مدرسة الأبناء. وكل منهم يحتاج تفرّغاً كاملاً للمتابعة والمشاركة". يشرح المهندس ماهر عادل معاناته التي لا يستطيع أن يهرب منها بعد ما غاص فيها وأوشك على الغرق.
غرق عادل في مجموعات "واتس آب" ليس معاناة شخصية، بل تكاد تكون شكوى عامّة لمعظم مستخدمي "واتس آب"، حيث الرسائل على مدار الساعة، والنقاشات لا تفتر أو تعترف بأن الظهيرة للقيلولة والليل للراحة، والشدّ والجذب لا ينتهيان أو يتوقفان أو يكلّان أو يملّان.
يفنّد عادل مجموعاته "مجموعة العائلة هي للعائلة الممتدة، والدتي وإخوتي وأزواجهم وزوجاتهم، والأبناء والبنات. نتبادل الصور والتهاني في المناسبات، بالإضافة إلى التنظيم الجماعي للقاءات التي تجمعنا. لكنها أيضاً لا تخلو من لوم لأن فلانة رأت فلانة في النادي ولم تلقِ عليها السلام، أو لأن زوج أختي لم يسأل على ماما حين مرضت، وهلم جرا. أما مجموعتا العمل، فالأولى، حيث المديرين والموظفين، فمتحفّظة ورسمية جداً، حيث تكليفات العمل المفاجئة وبعض التقييمات والتوجيهات. أما الثانية حيث الزملاء فقط، فهي أشبه بالطوفان، حيث معارك الإجازات وثورات تقلّص الحوافز ومنافسات الإنجاز في العمل".
ورغم طبيعة كل مجموعة المختلفة عن الأخرى، ورغم أن كلا منها يأتي مصحوباً بصداع من نوع خاص، إلا أن أكثر المجموعات هوساً وصخباً هي مجموعة أولياء الأمور. يقول "كمّ الاعتراض والجدال والانتقاد والانفعال وادّعاء المعرفة واحتكار الرأي الذي يعتبره صاحبه هو الوحيد الصحيح.. مؤلم".
مجموعات"الواتس آب" تنشطر ذاتياً
الألم الناجم عن مجموعات "واتس آب"، صاحبة القدرة على الانشطار والتحوّل من مجموعة واحدة "بقدرة قادر" إلى مجموعتين أو ثلاث وربما أربع، يعتبره البعض الآخر قيمة مضافة ومنفعة جبّارة. مجموعة على "واتس آب" دشّنها مصطفى شوقي (52 عاماً) قبل نحو ثلاث سنوات لزملاء الدراسة الذين تخرّجوا في الجامعة نفسها قبل ما يزيد على 25 عاماً. في البداية، هيّمنت على المجموعة مشاعر بهجة ومودة وفرحة اللقاء بعد سنوات من مشاغل الحياة. ثم بدأت ملامح المنافسة على استقطاب اهتمام الزميلات تلوح في الأفق بين الأعضاء من الرجال، ثم تسلّل بعضٌ من مشاعر غيرة بين الزميلات، حيث استعراض نوع السيارة ومكان الإقامة والقرط الماسي الواضح وضوح الشمس في صورة "البروفايل".
بعد أشهر، انشطرت المجموعة إلى ثلاث مجموعات، حيث ادّعت كل مجموعة أن أعضاءها هم الألطف والأظرف والأكثر تفاهماً، لكن بقي الجميع في المجموعة الأم التي أصبحت أقرب ما تكون إلى المجاملات الاجتماعية المتكلّفة، حيث بطاقة "صباح الخير مع فنجان قهوة"، وتمني "جمعة مباركة مع آية قرآنية"، ورسم كرتوني لقطّة غارقة في النوم مذيّلة بـ"أحلام سعيدة".
الجدل السياسي يخترق "الواتس آب"
يقول شوقي إن القشة التي قصمت ظهر المجموعة كانت نقاشاً سياسياً من وحي موافقة البرلمان المصري المبدئية على تمرير تعديلات دستورية، من بينها مدّ الفترة الرئاسية. فبين مؤيد مدافع عن النظام مبرّر للتعديلات ورافض لأي معارضة من جهة، ومعترض معارض للنظام مشكّك في نوايا التعديلات ورافض لأي تبرير لها من جهة أخرى، اشتعلت المجموعة بأجواء الصراع، واحتدمت النقاشات وتصاعدت الاتهامات. فبدلاً من تبادل وجهات النظر والقراءة أو الاستماع إلى الرأي الآخر، بدأ الأعضاء ينعتون بعضهم البعض بـ"الجهلاء والعبيد والمغيبين". اشتعل أثير المجموعة بتحزّبات، بعضها يتهم الآخرين بعدم الدراية بمصلحة الوطن، والآخرون يتهمون الأولين بالجهل بكيفية نهوض الأوطان، وهلّم جرا.
الطريف أن شوقي يؤكد أنه على الرغم من صداع هذه المجموعة والفوضى العارمة والصخب الهائل والخلاف العميق الذي شقّ صف الأصدقاء "إلا أن هذا الصداع أرحم وأهون من جنون مجموعة أولياء الأمور".
مجموعات أولياء الأمور صداع لا ينتهي
مجموعات أولياء الأمور على "واتس آب" تحوّلت من ظاهرة إلى "صرعة"، مئات وربما آلاف من المجموعات على "واتس آب" بعضها يجمع أولياء أمور الطلاب والطالبات في المدرسة نفسها، والبعض الآخر من أولياء أمور لطلاب في مدارس شتى ومحافظات مصرية مختلفة. الغالبية المطلقة ترى في نفسها القدرة على إصلاح التعليم بعيداً عن وزارة التربية والتعليم، رغم أن بعضهم ليس وليّ أمر من الأصل.
الوزارة الأبرز في هذا الشأن هي وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني التي تحظى بنصيب الأسد من مجموعات "واتس آب"، التي يثير بعضها الهلع، ويؤجج البعض الآخر الغضب من كل صغيرة وكبيرة تتخذها الوزارة أو لا تتخذها. لكن تظل هناك مجموعات- لا تحظى بالصيت نفسه– تناقش أمور أبنائها وبناتها بهدوء وبعيداً عن ادعاء المعرفة بكل شئ وأي شئ.
وزير التربية والتعليم المصري على "الواتس آب"!
وزير التربية والتعليم والتعليم الفني دكتور طارق شوقي يقول لـ"اندبندنت عربية" إنه كان يردّ ويعلّق على بعض ما يرد في هذه المجموعات- إلا أنه يرى أن من غير المعقول أن يكون هناك في مصر 25 مليون طالب وطالبة لهم نحو 50 مليون ولي أمر، ثم تأتي مجموعة على "واتس آب" قوامها مئة شخص، ويقدمون أنفسهم باعتبارهم ممثلين لأولياء أمور مصر. ويضيف أن البعض من أعضاء هذه المجموعات، وباعتبارهم "أدمن" (إداري) المجموعة شعروا بأن لديهم مكانة خاصة وحيثية مختلفة وكلامهم مسموع وأراؤهم صائبة.
الحلول تؤدي إلى المشاكل وليس العكس ...
فقدان الصواب احتمال كبير لمن يتابع مجريات الأمور على مجموعتي "واتس آب" تدوران حول الملف نفسه. المجموعة الأولى تتكون من ملاك منتجع سكني (كومباوند) في إحدى المدن الجديدة القريبة من القاهرة. الهدف من المجموعة تحسين حياة السكّان، والعمل على حلّ المشكلات، والتأكد من أن الجميع يسدّد ما عليه من استحقاقات مالية تتعلق بالصيانة والإصلاحات إلخ. المجموعة الثانية تتكون أيضاً من ملاك المنتجع نفسه، وهدفها مطابق لهدف المجموعة الأولى. لكن العجيب أن المجموعتين انقسمتا وصارتا على طرفي نقيض. وبدلاً من تنسيق المواقف من أجل حل المشكلات ومخاطبة الإدارة بلسان واحد، تحوّلت المجموعتان إلى نقمة على الجميع. فكلا المجموعتين ترى أن حلولها الأجدر، وأفكارها الأحسن، وأساليبها في حل المشكلات الأذكى. تدخّلت إدارة المنتجع، واستفادت من التضارب الحادث، وضربت هؤلاء بأولئك، وتنصّلت من مسؤولياتها في ضوء التضارب الرهيب بين أصحاب المصلحة.
مصالح كثيرة وفوائد عديدة يمكن تحقيقها وتفعيلها عبر مجموعات "واتس آب"، لكن المجموعات سلاح ذو حدود عدة، في ظل عدم الاعتراف بالقواعد والقيود المنظّمة لمثل هذه المجموعات، حتى وإن كان عملاً افتراضياً على الأثير العنبكوتي.
مجلة "فوربس" تدأب على نشر مقالات وتقارير من شأنها أن تساعد راغبي تكوين مجموعات على "واتس آب" لتكوين مجموعة ناجحة. وتضمن تقرير منشور في أبريل (نيسان) 2018 تحت عنوان "كيف تدير مجموعة ناجحة على واتس آب؟" عددا من القواعد اللازمة، منها ضرورة تذكرة أعضاء المجموعة بين الحين والآخر بقواعد المجموعة، مثل عدم استخدام السباب أو النشر بعد ساعة معينة من الليل أو الخروج عن الموضوعات المطروحة، وتوخي الحذر في التفرقة بين المعلومة والرأي في الكتابة منعاً للضرر.
لكن الضرر الواقع نتيجة ترك العديد من مجموعات "واتس آب" في مصر "سداح مداح"، بالتعبير المصري الشائع، دون ضابط من قبل إدارييها أو رابط قيمي يجمع بين أعضائها خلّف نتائج عدة تبدو معالمها واضحة.
فبالإضافة إلى العديد من العلاقات الاجتماعية التي تفسّخت، والأسريّة التي تخلخلت بسبب كلمات نابية أو عبارات جارحة كتبها البعض في لحظة غضب أو انفعال، فإن الرأي العام كثيراً ما يتأثر سلباً بسبب الخلط بين المعلومة والرأي، والمزج بين انتقاد السياسات الحكومية على أسس موضوعية من جهة، والهجوم عليها لمجرد تحقيق الشعبيّة أو إحراز الشهرة.
"الواتس آب " ليس منصة تواصل اجتماعي
وبعيدًا عن الشعبية والشهرة، فإن "واتس آب" في مصر له سمات مخلتفة وآثار مغايرة تحمل نكهة التغيير الحادث في المجتمع وتنقل مذاق فوضى المعلومات واختلاط الرأي بالمعلومة. أستاذ الإعلام في قسم الصحافة والإعلام في الجامعة الأميركية في القاهرة، السيد عبد الحميد محمود، يقول لـ"اندبندنت عربية" إن فكرة "واتس آب" في الأصل كانت حواراً بين شخصين أو بين شخص وعدد من الأشخاص، ويتحكّم فيها أفراد وليس مؤسسات أو جهات.
لكن سمة التقنيات الحديثة وتكنوجيا الإنترنت والمنصات العنكبوتية هي التغيّر والتطور السريع. يقول محمود "حدث تغيّر في مسار السوشيال ميديا في أواخر عام 2009 وبدايات عام 2010، لا سيما حين بدأت صرعة هواتف (البلاك بيري) في الاندثار مفسحة الطريق أمام سطوة الهواتف الذكية (آي فون). في هذه الآونة كان اقتناء هاتف ذكي مقتصرا على طبقات بعينها، لكن سرعان ما تغيّر الوضع، وبدأت أعداد كبيرة من المصريين تقتنيه وتستخدم تقنياته وأبرزها (واتس آب)".
ويفضّل عبد الحميد محمود عدم اعتبار "واتس آب" منصّة من منصات التواصل الاجتماعي، وذلك لأن "واتس آب" دوناً عن غيره من "فايسبوك" و"تويتر".. إلخ، يتفرّد بكونه مزوداً بإمكانات تتيح له أن يكون ذا طابع شخصي لمستخدميه مهيئاً لهم طريقة تواصل متفرّدة وليست جماعية، أو personalized communication.
ويرى محمود بالفعل أن مجموعات "واتس آب" في مصر وانتشارها المذهل سمة يتفرّد بها المجتمع المصري. يقول "ربما يعود ذلك إلى كون التطبيق جيد جداً من الناحية التقنية، لكن أيضاً لأن المصريين عموماً في تواصلهم الاجتماعي لا يملكون الكثير من الصبر وملكة الانتظار. يريدون طرح المشكة الآن، والحصول على حلها الآن". ويضيف "بين عامي 2011 و2013 (عامين شهد كل منهما ثورة شعبية)، اكتسب ملايين المصريين شعوراً قوامه (أنا قادر على فعل أي شيء الآن. أنا قادر على تغيير العالم الآن".
ويرجع محمود إقبال الكثيرين من المصريين من أعضاء المجموعات، لا سيما تلك التي تقول عن نفسها إن غرضها تحسين الظروف المعيشية والمساعدة في الرقابة على المسؤولين ومن ثم اقتراح حلول ووضع نظريات قد تكون قابلة للتطبيق أو يستحيل تفعيلها، بسبب إتاحتها مخاطبة كبار المسؤولين مباشرة عبر "واتس آب" على الرغم من إمكانية حلها من خلال صغار المسؤولين. هناك من يخاطب وزير التموين على مجموعة صارخاً "بطاقة التموين فيها خدش ويجب أن تصلحه فوراً". وهناك من يتواصل مع وزير الإسكان ويطالبه بإعادة طلاء شقة الإسكان الاجتماعي الآن. وهناك من يصرخ في وجه وزير التربية والتعليم لإخباره بأن حمام مدرسة الأولاد يحتاج تدخل سبّاك. والأمثلة أكثر من أن تعدّ ولا تحصى.
ورغم صعوبة إحصاء أعداد مجموعات "واتس آب" في العالم، إلا أنه يمكن اعتبار مصر في مقدمة الدول التي يقبل مواطنوها على صرعة الحراك "الواتس آبي"، لا سيما إن كان الأمر متعلقاً بالشكاوى.
لا يمكن تصنيف هذه المجموعات باعتبارها إيجابية أو سلبية، لكن الإيجابية تكمن في توحيدنا، ولكنها سلبية أيضاً للسبب نفسه وهو تصنيفنا بناء على توجهاتنا الأيديولوجية أو الفكرية. استخدام المجموعات بطريقة خطأ وغير محسوبة تحمل أخطاراً عدّة تبدأ بنشر الأخبار الكاذبة والمفبركة مرورا بمجموعة "أم فتكات لتعليم الطبيخ".