طُلب من الزعيم عبد الكريم قاسم مؤسس العهد الجمهوري في العراق، في نهاية خمسينيات القرن الماضي، أن يقدم دعماً مالياً لأحد البلدان العربية، الذي كان نظامه يرى في انقلاب العام 1958 في العراق، تحولاً مصيرياً بذهاب النظام الملكي وتحويله إلى نظام جمهوري.
قام الرئيس قاسم ذو النزعة الوطنية اليسارية باصطحاب ثلاثة مسؤولين من هذا البلد العربي في سيارته العسكرية نوع (واز) الروسية، وتوجّه حيث يسكن الآلاف من الفقراء في مدن الصرائف المكونة من قصب البردي ليطلعهم على أحوال شعبه في فقرهم المدقع في يوم ممحل.
بعدها أخبرهم "متى ما وضعت سقوفاً فوق رؤوس شعبي في بيوت من طابوق سأكون قادراً على دعم قيادتكم، فمن غير المعقول أن شعبكم يعيش في مبان شامخة، ونحن نعيش في هذه الأكواخ في منطقة (الميزرة والعاصمة) المؤلفة من أكواخ على مدّ البصر الواقعة في جانب الكرخ، وثمة غيرها كثير في المحافظات".
الزعيم... يشرع ببناء مدينة الثورة
شرع الزعيم قاسم المتقشف الأول في البلاد حينها بحملة كبرى لنقل مئات الآلاف من سكنة تلك العشوائيات إلى الضفة الأخرى من نهر دجلة ليشيد لهم مدينة عمالية في جانب الرصافة شرقي بغداد، وأطلق عليها (مدينة الثورة) تيمناً بثورة تموز من العام 1958، ليحيل حياة فقراء العراق المحرومين من أبسط مقومات العيش الكريم إلى حياة أخرى أقل حيفاً وقسوة، بعد أن شرع الجيش العراقي ببناء بيوت صغيرة بسعة 100 متر مربع، واقتلع أكواخ (حي الشاكرية) في الكرخ ليحيل كرخ بغداد لمدينة عامرة بالأحياء الراقية في المنصور واليرموك على أنقاض تلك الأكواخ والصرائف المصنوعة من مواد جلبها الفلاحون معهم من الأهوار وبقايا عهد الإقطاع المنهار، في حين تراجع الريف المهدد بالفيضانات والآفات الزراعية لعدم وجود سدود تكفي لوقف مياه دجلة والفرات معاً في مواسم المطر الذي كان ينهمر مدراراً.
قانون الإصلاح الزراعي... ثورة على الإقطاع
فقد أجهز الزعيم قاسم على النظام الاقطاعي باستصدار قانون الإصلاح الزراعي الذي وقع كالصاعقة على رؤوس ملاك الأراضي وسحب الأرض الأميرية العائدة للدولة من بين أيديهم ومنحها للفلاحين، وفتح بذلك كوة أمل لحياة الفقراء ممن لا يمتلكون سوى القيود التي بين أيديهم كما يقول كارل ماركس حين يصف حياة المعدمين وهم بالملايين!
زعيم الفقراء ومقتله
نال قاسم رضا الفلاحين الذين تحولوا لحياة المدن وهم بلا تأهيل أو رعاية كافية في ميزانية لا تشكل عُشر حاجة البلاد للوقوف على قدميه، يقول البروفسور عبد الوهاب الداهري عضو المجلس الزراعي الأعلى في محاضرة عن تطور الاقتصاد الزراعي في العراق "كانت الدولة ظنينة في الناس، لم تعرف كيف تحول طاقات أولئك المزارعين المعدمين الذين رفضوا ذل الإقطاع وهيمنته وتعسفه المفروض عليهم، حين تحولوا هم طوعاً إلى مجتمع صناعي، تحت طائلة العيش بصعوبة بالغة. وكانت السلطة لا تعرف غير رميهم خارج المدن وكأنهم ليسوا أبناءها ليعودوا إلى منازل البردي حول بغداد ومدن أخرى عنوة ومنها (الثورة) المدينة التي أرسى أسسها الزعيم قاسم ووزع أراضيها على مساحة شاسعة شرقي بغداد، والتي بنيت بسرعة قياسية تحت شعار الجيش للحرب والإعمار الذي تبناه (الزعيم)". وهكذا يحلو للعراقيين الفقراء تسميته بلا مقدمات ويجمعون على نزاهته إلى يومنا هذا، في وقت يلومه أغنياء بغداد وطبقاتها النافذة بأنه أول من وطنّ فقراء العراق في العاصمة وفتح المجال على مصراعيه لبداية ترييف العاصمة وتحولها إلى مدينة أخرى لا يعرفونها من قبل، ولم تكف نزاهة الزعيم قاسم الذي أنقذ الملايين من عيشة الأكواخ والعشوائيات ونظف الكرخ من آلاف الأكواخ التي تجثم على صدرها، إذ تآمر عليه العسكر بتحريض إقليمي ودولي حتى قتله في مبنى الإذاعة والتلفزيون العراقية في حي الصالحية.
سكان الثورة يطالبون بتسليحهم
على الرغم من مطالبة سكان الثورة المدينة التي تدين له بالولاء المطلق لبانيها بتسليحهم وفتح مشاجب الجيش لهم للدفاع عنه، فإنه أبى ذلك لئلا يكون المتسبب بمذبحة بين أهالي بغداد رغم خروج حشود من سكان الثورة وفقراء بغداد عموماً وتوجههم لمقر وزارة الدفاع حيث مقر الزعيم قاسم يطلبون السلاح، لكنه قتل بالمحصلة ورميت جثته في نهر جسر ديالي، ولم يتمكن أحد حتى اليوم من سكان الثورة والشعلة وعشرات الأحياء التي بناها من زيارة قبره، لعدم معرفة أين وكيف دفن!؟ لتطوى قصة زعيم الفقراء كما يُطلق عليه.
كان قتل قاسم يمثل طلاقاً بين سكان المناطق الشعبية الفقيرة والسلطة وأولهم سكان الثورة، فتحولوا إلى قوة جماهيرية معارضة للسلطات المتعاقبة. والتحول الخطير في حياة مدينة الثورة ذات الأصول الريفية يكمن في أنها أضحت قلعة لليسار العراقي، وتغلغلت فيها الحركات السياسية المعارضة للنظام الرسمي في البلاد خلال النصف قرن الماضي، اختلط على سكانها التميز بين ما هو شيعي وشيوعي، وتميزت بثقافة سكانها الذين أتوا بقيم الريف وثوابته التي اصطدمت فوراً بحضارة مدينة بغداد وريثة العهد العثماني الذي حكم العراق ستة قرون وقبله العهد العباسي بإرثه المعروف.
تحول الثورة إلى مدينة صدام
تغير اسم المدينة من الثورة إلى مدينة صدام أواخر السبعينيات مع تسلم صدام حسين رئاسة الجمهورية، وتحوله من مسمى السيد النائب إلى (السيد الرئيس القائد)، وكان وقت مجيئه للموقع الأول في الحكم حرجاً جداً حيث تزامن ذلك مع قيام الثورة الإيرانية الخمينية، فحول اسم مدينة الثورة باسمه، وشرع بخطب ودها بعد أن كانت القيادة العراقية بزعامة البكر تهم برفعها وإصلاح ما اعتبروه الخطأ الجسيم الذي ارتكبه الزعيم نهاية خمسينيات القرن الماضي بإنشائها، بدعوى أنها تعوم فوق بحيرة من النفط!
الثورة الإيرانية وانعكاساتها
خطر مدّ الثورة الإيرانية إلى العراق عجّل من محاولات اتباع استراتيجية جديدة لدى القيادة العراقية بزعامة صدام حسين إلى الاعتماد على معين جماهيري لتجهيز المقاتلين الذين سيمدونه بالرجال لمقاتلة إيران في أطول حرب عرفها العراق والعالم بدأت منذ 1980 - 1988، لم تبخل (مدينة صدام) على العراق بمئات الآلاف من الشهداء والجرحى، من الجنود والمراتب ومتطوعي الجيش الشعبي والمهمات الخاصة، حتى استحالت المدينة الفقيرة إلى مصدر بغداد للقوى العاملة، ومدينة غارقة بالسواد الذي صبغ رداء نسائها وكهولها وشيوخها، وامتد لجدرانها التي غطتها لافتات نعي الشهداء، فلم يبق جدار واحد دون لافتة سوداء!
الثورة وصدام حسين
عينّ الرئيس صدام حسن أميناً للعاصمة هو سمير الشيخلي الذي عرف بدأبه على توفير الخدمات العاجلة للمدينة وتكملة مشاريعها الخدمية، والمعروف عنه أنه رجل لا ينام الليل حتى يكمل احتياجات تلك المدينة التي تقض مضجع الرئيس، حين تحولت في أواخر عهده إلى مدينة ثائرة على نظامه وتغلغلت فيها الأحزاب ذات الطابع الطائفي، فشهدت مجابهات مع السلطة التي قمعتها بشدة، خصوصاً بعد مقتل المرجع الديني السيد محمد محمد الصدر والد السيد مقتدى نهاية التسعينيات!
الثورة تتحول إلى مدينة الصدر
بعد غزو العراق واحتلاله عام 2003، تغير اسم المدينة إلى (مدينة الصدر)، وسجل الاسم في أمانة بغداد تيمناً بالسيد محمد محمد الصدر والد السيد مقتدى الصدر، رجل الدين الشيعي الذي أنشأ فيها ميليشيا تقاتل الوجود الأميركي باسم جيش المهدي، وتحولت مدينة الصدر إلى أهم مراكزه، إضافة إلى مناطق أخرى في عموم العراق، ومنها ولدت أغلب الميليشيات وقوات الحشد الشعبي وسرايا السلام المسلحة، وعصائب أهل الحق، وسواها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى عكس ما يتوقع أهل بغداد بأن تتقلص هذه المدينة بعد نمو سكان المحافظات فإنها آخذة بالتوسع مساحةً وسكاناً، وحقيقة لا يوجد تعداد دقيق لعدد سكان المدينة، لكنه يقدر بمليوني نسمة، وهي تتوزع على قضاءين هما الصدر الأول والصدر الثاني، ومقسمة إلى ثمانين قطاعا، مساحة كل قطاع حوالي اثنين ونصف كيلومتر مربع، وهي تشهد حركة توسع لبناء وحدات سكنية جديدة لاستيعاب النمو السكاني ضمن مشروع أطلق عليه مشروع عشرة في عشرة، لبناء مئة ألف وحدة سكنية، على مساحة تزيد على ثمانية كيلومترات مربعة.
خفايا مدينة الصدر
تحتوي مدينة الصدر على ثلاث عشرة سوقاً شعبية يؤمها الناس من عموم بغداد، فحين تختفي بضاعة ما يلجأ أهالي بغداد والرصافة وباقي المحافظات إلى مدينة الصدر وأسواقها المكتظة، لكن لسوق مريدي الشهير طابعاً خاصاً كونها السوق الأشهر في بغداد لعمل الأوراق الثبوتية المزورة لكل وثائق الدولة العراقية وبأختامها الأصلية التي سرقت أيام اقتحام دوائر الدولة بعيد أبريل (نيسان) 2003، فقد دهم لصوص مختصون تلك الدوائر لسرقة الأختام وتقليدها، وإرجاع بعضها كي تستمر دوائر الدولة باستخدامها، وفي الوقت نفسه هناك أختام دخلت سوق مريدي لتجري التواقيع اللازمة لمن يبحثون عن كتاب تأييد بختم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وأي مسؤول آخر، ويصدروا الهويات المطلوبة. وهذا يفسر لماذا الدولة مخترقة بأختام وتواقيع سوق مريدي؟ وقد بذلت الدولة وأجهزتها جهداً لتطويق هذه الظاهرة وحصرها.
الصدريون والسياسة
على الرغم من سطوة الصدريين على المدينة وتيارهم الذي نال أعلى الأصوات في البرلمان الحالي ولهم أكثر من مئة مسؤول في الدولة بين وزراء ووكلاء ونواب رئيس وبرلمان ومئات المديرين العامين ناهيك بالهيمنة على الأجهزة الأمنية والخاصة ووسائل الإعلام، باسم التيار فإن هناك محاولات لاسترجاع اسم المدينة الأول (مدينة الثورة) باسم مؤسسها وبانيها عبد الكريم قاسم مفجر ثورة 1958، كما يؤكد كثير من الناشطين، حفاظاً على تراثها وتاريخها وهويتها من تبدل الأسماء عبر الحقب المتعاقبة والأزمنة التي تجبُ ما قبلها.
نبذة عن ترييف المدن العراقية
ظاهرة ترييف المدن العراقية لم تكن جديدة، بل مرت بعصور طويلة بعد انهيار عصر الإقطاع وزمن السراكيل الذين يسوقون الفلاحين كالماشية، وكان لحكم الوالي المصلح مدحت باشا أبلغ الأثر في إدخال العراق زمن الحداثة وبناء المدن الجديدة، وشرع بمشاريع إنمائية وسنّ القوانين على نسق القوانين الفرنسية، التي نقلت العراق إلى عصر جديد بعد سبات طويل، ومن بينها قانون الطابو وتسجيل الأملاك العقارية والأراضي، ليوقف عصر المشاعية التي تحكمها القبيلة وقيمها التي تقسم الأرض ضيعا، فكان القانون الجديد سجل الأراضي باسم شيوخ القبائل وطالبهم بدفع الضرائب للدولة، في محاولة لتوطين القبائل ووقف هجرتها الدائمة كما يؤكد ذلك الباحث العراقي صادق الطائي، الذي يرى أن "موجات المهاجرين الجدد غير القادرين على التأقلم مع حياة المدينة والمتخوفين من أجوائها، ونمط الحياة الحديث فيها سكنوا في حزام فقر في خاصرة العاصمة الشرقي، خلف سدة ترابية كانت تمثل حدود بغداد الشرقية ولتحميها من خطر الفيضان، هي سدة ناظم باشا، نسبة لوالي عثماني متأخر أمر بإنشائها قبيل الحرب العالمية الأولى، كما سكن عدد منهم في جانب بغداد الغربي في أحياء صفيح محاذية... الأزمة في هذه الظاهرة أن الأنظمة المتعاقبة على حكم العراق لم تطور وسائلها في تغيير قيم تلك الأحياء التي أنشئت بظروف قيصرية فقد ولدت من رحم المعاناة والعوز، وكانت تعاني دوماً من جور السلطات والزعامات التي تعاملت معها بدافع المصلحة الذاتية للنظام السياسي الذي لم يتعلم بعد أن مدينة الثورة سابقاً أو الصدر حالياً هي تحد لوظيفة الدولة وثقافتها في إشاعة سلطة القانون العام واحترام النسق الاجتماعي الذي تسير عليه البلاد، وليس كما يحدث اليوم حين تحولت أحياء عراقية كثيرة إلى أوكار للميليشيات تأوي السارقين وقطاع الطرق، الذين يحتمون بدولة الفساد ويسوغون سرقة المال العام، واقتحام المباني العامة والخاصة، بجيوش من (الفضائيين)، وهو مصطلح تهكمي يشاع عن موظفي الدولة دون عمل، بل يأخذون منافعها فقط.
مدينة الصدر نموذج للتحدي المجتمعي
تبقى مدينة الصدر (الثورة وصدام سابقاً) التحدي الأكبر للمجتمع العراقي حين لا تشرع الدولة ببناء مدينة أخرى أوسع في مساكنها، وفي رحاب فضاءاتها وخضوعها لقوانين الدولة احتراماً، لسكانها الطيبين الذين عانوا أصلاً من تعسف الأنظمة المتعاقبة والشعور بلا جدوى الحلول القريبة لمشكلة الفساد وعسف السلطة وإهمالها للشعب والصراع على الحكم بأي ثمن!