هناك في التاريخ القصير نسبياً للفن السينمائي مجموعة ضخمة من أفلام تنتمي إلى فئة شديدة الخصوصية يمكن تسميتها "فئة الأفلام التي لم تُحقق أبداً". ويعرف هواة الفن السابع أن لكل مبدع في فن السينما مشروعا عجز عن تحقيقه أو عن استكماله، ربما كان من شأنه أن يكون أعظم أفلامه لو وُجد. ولا يتسع المكان هنا للائحة تضم "أشهر" مشاريع هذه الفئة. حسبنا أن نقول أن لكل فنان كبير تقريباً مشروعاً من هذا النوع. وبالنسبة إلى المخرج الدنماركي كارل دراير، الذي اعتاد فيلمان له على الأقل أن يحتلا مكانة متقدمة جداً في لائحة أعظم الأفلام في تاريخ السينما، وهما "أوردت" (الكلمة) و"آلام جان دارك"، كان لديه حين رحيله مشروعان كبيران أحدهما عن "يسوع الناصري" والثاني، وهو الذي نتوقف عنده هنا عن الحكاية الإغريقية التي تحولت في زمن الإغريق ثم الرومان، إلى ما لا يقل عن ثلاث مسرحيات كتب واحدة منها يوريبيدس ليتبعه أوفيد وسينيكا ومن ثم بعد قرون الفرنسي بيار كورناي، وصولاً إلى جان آنوي. لقد فُتن كتّاب المسرح ثم السينما من بعدهم بالحكاية القاسية والغريبة لتلك المرأة التي عرفت كساحرة لكن حكايتها المريرة تقوم على قتلها أطفالها من زوجها وحبيبها جازون إذ اكتشفت خيانته لها وأن تلك الخيانة جعلته يهملها فأرادت أن تعاقبه وتحرق قلبه كما حرق قلبها.
عجوز يحلم بمجد إضافيّ
لن نمعن هنا في رواية أحداث هذه الحكاية ولن نتوقف عند مسرحية يوريبيدس التي تبقى من أفضل الأعمال الفنية التي تناولتها. بل سنتوقف عند مشروع ظل دراير يحمله عشرات السنين باحثاً، ليس فقط عن تمويل له ولكن عن طريقة فنية مبتكرة لتحقيق العمل، فلما وجد الطريقة وكتبه في سيناريو مختصر من 16 صفحة كان الأوان قد فات: كان صار في السادسة والسبعين من عمره، ولم تكن مكانته الحقيقية قد ترسخت تماماً لدى أي جمهور حتى وإن كان النقاد قد بدأوا يهتمون به ليصل الأمر بعد ذلك إلى إعلان البابا الراحل يوحنا الثالث والعشرين أنه في هوايته السينمائية المعلنة بعتبر أن الفيلم المفضل لديه هو "أوردت" لـ... كارل دراير.
من هنا بات "ميديا" هذا هو مشروع دراير الكبير المؤود، ولقد كان على شخصية ميديا نفسها، وإنما في معالجات تختلف عن معالجة المخرج الدنماركي، أن تنتظر مناسبتين لتنتقل إلى الشاشة: مناسبة فيلم حققه الإيطالي بيار باولو بازوليني مع ماريا كالاس، ومناسبة فيلم للفرنسي جول داسان عَصْرن الحكاية ناقلاً إياها إلى زمننا هذا بعنوان "صرخة إمرأة". بيد أن خيار دراير لم يكن إقتباساً معاصراً، ولا عملاً كلاسيكياً أوبرالياً. فهو الذي كان يعرف صعوبة، إن لم يكن استحالة نقل الأعمال الأدبية الكبيرة إلى شاشة السينما، إختار أن يبقي الزمن الإغريقي إطاراً لفيلمه ولكن مع الابتعاد قدر الإمكان عن المسرحة التي قام بها يوريبيدس، بتحويل السيناريو إلى نوع من التحقيق التاريخي يدور من حول الحادثة الحقيقية التي جرت في ذلك الزمن واقتبسها يوريبيدس ثم الآخرون، فنياً. أراد دراير أن يطارد الحكاية كما حدثت في الواقع المعيوش بدلاً من أن يتابع العمل الفني. والحقيقة أننا حين نقرأ اليوم تلك المعاجة سيدهشنا مقدار ما فيها من وعد بلغة سينمائية ترتبط بالحياة ومقدار ما فيها من أبعاد سيكولوجية وربما تبريرية أيضا لامرأة حولها غضبها على كرامتها كامرأة إلى وحشة من نوع نادر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن المؤسف طبعاً أن دراير رحل دون أن ينجز مشروعه هو الذي خلّف لنا على أي حال عدة أفلام خالدة ربما أشهرها «آلام جان دارك» و«اوردت» (الكلمة) الذي حققه دراير في العام 1955. علماً بأن هواة السينما يعتبرون دائماً أن فيلمهم المفضل بين أفلام دراير، كان وسيظل دائماً «يوم الغضب» (1943) الذي تدور أحداثه في الدنمارك عند بدايات القرن السابع عشر ويتحدث عن إحراق امرأة يُظن بأنها ساحرة وتأثير ذلك على المجتمع الضيق المعني بالمسألة. وكان «يوم الغضب» واحداً من الأفلام القليلة التي اهتم فيها دراير بتصوير موضوع تدور أحداثه في بلده، الدنمارك.
بدويّ الفن السينمائيّ
فدراير كان واحداً من أوائل السينمائيين الأوروبيين الذين نظروا إلى فن السينما بوصفه فن البداوة الأصيلة، لذلك رأيناه يحقق أفلامه تارة في ألمانيا وأحياناً في السويد ومرة على الأقل في فرنسا، وينوع موضوعاته بحيث تكون ذات طابع كوزموبوليتي واضح. ولد دراير في العام 1889 في كوبنهاغن، وتلقى تربية لوثرية صارمة ومتقشفة طبعت أجواء أفلامه كلها لاحقاً، وهو بعد دراسته الثانوية عمل فترة في الصحافة قبل أن يلتحق العام 1912 بشركة إنتاج سينمائي راحت تكلفه بكتابة عناوين الأفلام ولوحات حواراتها، ثم انتقل لكتابة السيناريو، مما أكسبه خبرة سينمائية جعلته يحس العام 1919 أنه بات من النضج بحيث يحقق فيلمه الأول «الرئيس» الذي كشف باكراً عن أسلوبه المتعمق في دراسة ردود الفعل النفسية لشخصياته من خلال الإكثار من اللقطات المكبرة. بعد ذلك الفيلم كان فيلمه الثاني «صفحات من كتاب الشيطان» (1920) الذي بدا فيه متأثراً بأسلوب الأميركي غريفيت في فيلم «تعصب»، حيث روى دراير تاريخ العالم من خلال أربع حكايات شيطانية. بداية دراير الحقيقية على أي حال كانت في فيلمه الثالث «أرملة بارسون» (1920) الذي أتى، عبر حكاية غريبة، ليحتفل بالشيخوخة والتسامح. وبعد هذا الفيلم صار دراير معروفاً ومحترماً وإن لم يكن الجمهور قد تابع عمله بشكل جيد. ومن هنا حين حقق دراير فيلمه التالي «أحبوا بعضكم بعضاً» وتدور أحداثه في قرية روسية خلال ثورة العام 1905، كان رد فعل النقاد محبذاً لهذا الفيلم الذي يؤكد كم أن دور الجمع في التاريخ أكبر وأهم واكثر خطورة من دور الأفراد. وهو موضوع سيلح عليه دراير كثيراً في أفلامه التالية. وفي ألمانيا حقق دراير بعد ذلك فيلمه «رغبة القلب» (1924) عن حكاية انجذاب بين رسام وموديله، تنتهي بالخيانة والغدر.
بطلة شعبية فرنسية
عدة أفلام قصيرة وطويلة حققها دراير بعد ذلك، وفي انتطار فيلمه الكبير التالي «آلام جان دارك» الذي شاءه فيلماً خالياً من الأبعاد الاستعراضية التي كانت قد جرت العادة على إلصاقها بحكاية البطلة الشعبية الفرنسية. وهكذا انطلاقاً من تقشفه اللوثري، تمكن دراير من تحقيق فيلم هادئ وبسيط يحكي حكاية المقاومة الفرنسية الشهيرة، ويركز الأحداث خلال يوم واحد، ويستغل إلى أقصى حد تعابير وجه ممثلة «الكوميديا الفرنسية» رينيه فالكونيتي التي كان دور جان دارك هنا، الدور الوحيد الذي مثلته في حياتها. لقد قال دراير عن أسلوبه في هذا الفيلم: «فيما كنت أصور جان دارك كانت غايتي أن أستغل ثنايا أسطورة هذه البطلة، لكي أتمكن عبرها من اكتشاف الفاجعة الإنسانية الحقيقية، الفتاة الإنسانة التي تدعى جان. كنت أرغب في أن ؤكد على أن أبطال التاريخ هم بشر بعد كل شيء». بعد هذا الفيلم، وبعد أن صارت السينما ناطقة بطؤ إنتاج دراير، ولم يحقق سوى عدد قليل من الافلام، بل راحت تمر عليه عشر سنوات دون عمل مما اضطره في نهاية الأمر إلى العمل كمدير لإحدى صالات السينما. أما أشهر الأفلام التي حققها دراير بعد «جان دارك» فهي «فامبير» و«أوردت» الذي حظي بإعجاب سيد الفاتيكان ويصنفه الكثيرون بين أعظم عشرين فيلماً في تاريخ السينما. أما آخر فيلم حققه دراير، فهو «جرترود» (1964) الذي لخص فيه كل أسلوبه السينمائي وجاء أشبه بوصية إبداعية. لكن مبدعه مات بعد عرضه بأربع سنوات، في العام 1968 بدون أن يدري أنه بعد سنوات قليلة سوف ينظر إليه كواحد من أعظم فناني السينما.