بعد دخول ميليشيات (أنصار الله) صنعاء في 21 سبتمبر (أيلول) 2014، وسيطرتها الأمنية على كافة مداخلها، واختفاء القوات النظامية من الشوارع، صدر تصريح غير مفهوم من وزير الداخلية في حكومة الأستاذ باسندوة، اللواء عبده الترب، نشره على موقع الوزارة داعيا فيه الأجهزة الأمنية إلى التعاون مع الحوثيين وعدم المقاومة وتجنب الاحتكاك، وبرر ذلك بالحرص على الممتلكات العامة وحراسة المنشآت الحكومية التي تعد ملكا للشعب، معتبرا أنصار الله "أصدقاء للشرطة". وكان تصريح اللواء الترب معبرا عن حالة الانهيار التي أصابت كافة الأجهزة العسكرية والأمنية وبقية المؤسسات المدنية، وجاء ليعلن عن الانهيار الكامل في كيان الدولة والعجز الفاضح في الاستعداد لمواجهة حقيقية لإنقاذ البلد.
في الوقت الذي كانت فيه الأحداث في صنعاء تتسارع دون قدرة على مواجهتها، كانت عزلة الرئيس هادي الداخلية تتزايد وصارت لقاءاته المباشرة مع المستشارين نادرة، ولم يكن بجواره أي شخص قادر على استيعاب المشهد بتفاصيله وإيجاد مخارج تعيد للدولة مكانتها، ولكن الأكثر ضررا كان انحسار الدعم الإقليمي للرئيس هادي بسبب استياء عدد من دول المنطقة من طريقة تعامله مع الأحداث منذ حادثة معهد دماج وما تلاها.
إدخال نظام المشرفين
نظام "المشرفين" معقد في تركيبته وتراتبيته، وهو ينتقل أفقيا ورأسيا بداية من التكوينات المجتمعية والمؤسسات بكافة تصنيفاتها، ويقترب في نشاطه من دور "الضابط السياسي" في الأنظمة الفاشية، التي كانت تسعي للسيطرة ومراقبة كافة التحركات داخل المجتمع والدولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حالة "أنصار الله" فقد انتبهوا إلى أن السيطرة على الدوائر المالية في المؤسسات سيسهل تحكمهم في كافة أعمالها، ولم يكن اختيار "المشرف" عملية روتينية بل بمنهجية مدروسة، ويتم انتقاؤهم من فئات محددة وبمعايير مشددة، أولها وأهمها الولاء المطلق للجماعة بغض النظر عن الكفاءة، وكانوا قد بدأوا في تطبيق النظام في قرى صعدة بعد أن أحكموا السيطرة عليها، ثم توسعوا إلى المناطق المحاذية، وصار "المشرف" صاحب النفوذ الحقيقي، ثم نقلوه إلى كل المناطق التي تمددوا فيها.
حين بدأ "أنصار الله" نظام "المشرف" كان بدعوى أنه يهدف إلى التحقق من نزاهة العاملين وسلامة الإجراءات، وتم منع كبار الموظفين من إخراج أي وثائق قبل التحقق منها، وتم تفتيشهم على بوابات المصالح الحكومية، ورفض عدد من المسؤولين الخضوع وفضّلوا البقاء في منازلهم والانقطاع نهائيا عن الحضور، وكانت هذه بداية ارتباك في سير أعمال المؤسسات بصورتها المعهودة، ولم يكن التعبير عن الرفض والغضب جماعيا، بل اتخذ الطابع الشخصي الذي لم يكن مؤثرا في المسار الذي فرضته "الجماعة"، واستكان الجميع عدا صيحات تحذير ذهبت أدراج الرياح.
مغادرة إسبانيا
في بداية 2014، انتشر على المواقع الصحافية خبر كاذب يفيد بطلبي اللجوء في ألمانيا، وزعمت أن السبب خوفي من إنهاء مهمتي كسفير لدى إسبانيا بعد أن كتبت مقالا بتاريخ ١٢ يناير (كانون الثاني) 2013 بعنوان (اليمن: البديل المتاح) في صحيفة الشرق الأوسط (كنت كاتب مقال أسبوعي فيها لثلاث سنوات)، قلت فيه "إننا أمام ساحة مملوءة بالعبث واستهلاك الجهد والوقت، وذلك لن يزيد الأوضاع إلا تعقيدا وتأزما واحتقانا، وسيبعث على المزيد من الكراهية والخصومة وتفاقم سوء الأوضاع المعيشية والأمنية في كل جزء من اليمن جنوبا وشمالا، وليس من المسؤولية في شيء إخفاء الحقائق، ودفن الرؤوس كالنعام، بينما الجميع يعلم ما يدور على السطح وما يعتمل تحت باطنها، بينما يتبجح كثيرون بأنهم يمثلون هذا الجزء من الوطن أو ذاك، ولا يتورعون عن التوقيع على أوراق يعلمون أنها بلا قيمة قانونية ولا سياسية، ولا يمكن أن تكون جهدا مجردا لمصلحة الوطن".
ثم أضفت أن "على الذين يتحدثون عن الوحدة اليمنية اليوم، متكئين على نصوص دولية، الالتفات إلى كل ما صدر عن مجلس الأمن بشأن وحدة العراق وسوريا وليبيا والسودان، وعليهم إدراك أن الحديث عن العودة إلى دولة اتحادية بإقليمين هو الحد الأدنى الذي يجب الإسراع بقبوله وتنفيذه، قبل أن نواجه موقفا ينزلق فيه اليمن نحو التشظي الكامل، وحينها لن يكون بمقدور أحد التحكم في مآلات الأوضاع. أشعر بغصة وأنا أجد نفسي مساندا للذين ينادون بعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه في 21 مايو (أيار) 1990، وكل ما أتمناه هو أن لا يندفعوا إلى حد إنكار وشائج القربى وروابط التاريخ والجغرافيا، وبعد أن تهدأ النفوس مستقبلا لن يكون مستحيلا على الأجيال المقبلة استعادة كل ما خسرناه بسبب السياسات الخرقاء والغرور والاعتداد بالمال والقوة".
في شهر أغسطس (آب) 2014 استلمت، وعدد من السفراء، مذكرة روتينية بانتهاء فترة عملي سفيرا لدى مملكة إسبانيا، وبدأت بعدها في ترتيب أوراقي وأغراضي الشخصية وأرسلتها إلى اليمن تهيئة للعودة النهائية رغم القلق الذي اعتراني من سير الأمور في الداخل. ولمّا كانت إجازة الصيف تجعل التوديع الرسمي صعبا لأنها فترة تغيّب معظم المسؤولين الإسبان، بعثت رسالة إلى مدير مكتب رئاسة الجمهورية الأستاذ أحمد بن مبارك أطلب التمديد لشهرين حتى تنتهي إجازة الصيف، ولكنه اعتذر بمبرر أن كثيرين قد تقدموا بنفس الطلب، وكان هذا جهل بالأعراف الدبلوماسية في الأوضاع الطبيعية، وخصوصا أنه لم يكن هناك ما يستدعي الاستعجال.
ترددت كثيرا في الأيام الأخيرة من عملي في اتخاذ قرار نهائي حول عودتي أو البحث عن مكان أذهب للعيش فيه حتى تنجلي الأوضاع، وكان أن اخترت البحرين بعيدا عن العواصم المنغمسة في الشأن اليمني، وحيث احتفظت بصداقات كثيرة من أيام فترة عملي سفيرا بها ما بين 1996 و1999 حين انتقلت بعدها سفيرا لدى كندا.
هادي وبحاح
قلت سابقا إن الأستاذ خالد بحاح لم يكن الاختيار المفضل للرئيس هادي، الذي قبل به مجبرا وليمنح نفسه فرصة لتهدئة الأوضاع والعمل على تمرير أزمة تعصف بالبلاد، وظن أنها ستمنحه مساحة للمناورة.
ومرة أخرى برهن هادي أنه لم يدرك خطورة الأوضاع، وأظهر عدم قدرة على التعامل معها، بخاصة أن دائرته الضيقة جدا كانت تعتقد في إمكانية إجراء تسويات مع جماعة "أنصار الله"، التي كانت مستمرة في إحكام قبضتها على المؤسسات في ظل غياب تام للمؤسسات العسكرية والأمنية التي كانت تمر بفترة من الارتباك لم تجد فيها مرجعية يمكن اللجوء إليها لاتخاذ قرارات بتحركها، رغم أن مؤيدي الرئيس يبررون ذلك بأن معظم القيادات العسكرية والأمنية كانت موالية للرئيس الراحل، وهو تبرير غير مقنع بعد مرور أكثر من عامين على تولي هادي منصبه.