تجربة "الثورات الشعبية السلمية" ليست واحدة. لكن صراعات القوى الخارجية على أرض الثورات متشابهة. ثورات الشعوب في بلدان المعسكر الاشتراكي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي نجحت من دون عنف في الانتقال الديمقراطي. والاستثناء في المجر وبولندا، حيث جرى مع الوقت الانتقال إلى نوع من السلطوية، يؤكد القاعدة. ثورات الموجة الأولى ما سمي بـ"الربيع العربي" تنوعت مصائرها. تونس كانت الاستثناء حيث جرى التحول الديمقراطي بسلاسة، بعدما تخوفت حركة "النهضة" من مصير الإخوان المسلمين في مصر. وهي تبدو كأنها نادمة بحيث عملت على إيصال رئيسها رائد الغنوشي إلى رئاسة البرلمان، وسعت للسيطرة على السلطة التنفيذية عبر حكومة سقطت في البرلمان.
في سوريا وليبيا واليمن، قاد عنف السلطة و"عسكرة" الثورة إلى حرب أهلية مستمرة حتى اليوم، ودخول قوى إقليمية ودولية على الخط في ما سماه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف "أكبر لعبة صراع جيوسياسي" في الشرق الأوسط. في مصر، استولى الإخوان المسلمون على الثورة والسلطة، قبل أن يسترد الجيش في مناخ ثورة مكملة لها، السلطة التي كانت في يده منذ عام 1952.
والمختصر هو أنه حيث دخل العنف، خسرت الانتفاضة ولم يربح البلد، بل صار في فوضى قبل أن يخسر سيادته واستقلاله أمام القوى الخارجية. قيل في الماضي إن "الثورة يخطط لها الأذكياء، ويحققها الأبرياء، ويقطف ثمارها الخبثاء". ويُقال اليوم إن "الثورة يصنعها المجتمع المدني، ويتسلط عليها الإسلام السياسي المتطرف، ويمسك الجيش باللعبة".
انتفاضات الموجة الثانية في السودان والجزائر والعراق ولبنان، شعبية سلمية واجهت عنف السلطة حيناً، والتجاهل السياسي حيناً آخر، وتوقف مصيرها على موقف الجيش. ثورة السودان نجحت عبر تفاهم بين المتظاهرين والجيش على تقاسم السلطة في مرحلة انتقالية من سلطوية الإخوان المسلمين ورئاسة عمر البشير إلى نظام ديمقراطي. الحراك الجزائري لا يزال مستمراً بشكل سلمي، لكنه لم يستطع تحقيق مطالبه، إذ عمل الجيش على توظيفه في التخلص من عبد العزيز بوتفليقة المريض و"العصابة" التي كانت تحكم باسمه، ثم في فرض انتخابات رئاسية من دون أي تغيير في الدستور والنظام.
"ثورة العراق السلمية" تواجه عنف النظام، وعنف ميليشيات "الحشد الشعبي" المرتبطة رسمياً بالسلطة وعملياً بإيران، وإصرار "الحرس الثوري الإيراني" على تفشيلها ليضمن استمرار النفوذ واستخدام العراق كساحة للمواجهة بين أميركا وجمهورية الملالي. كل ما حققه الثوار حتى الآن هو استقالة حكومة عادل عبد المهدى الذي بدا وثيق الصلة بطهران. وأقل ما دفعوه، هو مئات القتلى وآلاف الجرحى في بغداد والناصرية وكربلاء والنجف.
الثورة الشعبية السلمية في لبنان دخلت شهرها الرابع. وهي تلقّت كل أنواع المواجهة السياسية معها وصولاً إلى شيء من العنف. في البدء، قال أهل السلطة إن مطالب المتظاهرين هي مطالبنا، لكنهم تجاهلوا تنفيذ شيء منها. كان "الاحتواء" هو ما أرادوه من خلال أكثر من تكتيك: محاولة تصنيف الثوار بين أبرياء وخبثاء. أحاديث عن "مؤامرة إمبريالية" وراء الثورة في التنظيم والتمويل. مطالبة بكشف قادة الثورة. تجاهل المطالب الواضحة حول حكومة مستقلين وتغيير قانون الانتخاب لإجراء انتخابات نيابية مبكرة. تكرار مطالبة الثوار بتحديد ما يريدون. وأخيراً، استخدام العنف.
ولا أحد يجهل استحالة إسقاط النظام الطائفي، ولو أنه مفلس وعاجز. لكن من المستحيل أيضاً استمرار لعبة السلطة كما هي. وإذا كان تجاهل أهل السلطة لمطالب الثورة والغرق في ترتيب مواقعهم السلطوية من دون أي حل لأعمق أزمة وطنية وسياسية ونقدية ومالية واقتصادية واجتماعية، أدى إلى بعض العنف ضد المصارف، فإن استمرار التجاهل سيؤدي إلى معادلة بالغة الخطورة: الرفض الوقح لمطالب الثورة الشعبية السلمية المنضبطة يقود إلى ثورة فوضوية عنيفة. وماذا يحدث في الفوضى؟ رئيس الكتلة النيابية لـ"حزب الله" محمد رعد أعطى الجواب بصراحة. قال "عندما يذهب البلد إلى الفوضى، سيتحكم به الأقوياء". من هم الأقوياء؟ الكل يسلّم بأنّ "حزب الله" يملك "فائض القوة". لكن مصلحة الحزب في الواقع ليست الانتقال من "التحكم بلبنان" إلى "حكم لبنان". فالتحكم مريح له تحت مظلة الشرعية، سواء في دوره المحلي أو في دوره الإقليمي الذي يتجاوز المشاركة في حرب سوريا، إذ هو الآن ضمن القوى المطلوب منها مهمة إخراج القوات الأميركية من غرب آسيا. والحكم المباشر يعني عزلة لبنان والعجز عن إدارة وضعه الطائفي المعقد وأزماته ودينه العام الذي يصل إلى مئة مليار دولار.
وأخطر ما يحدث هو أن المسؤولين مطمئنون، ويبدون عكس وزير الخزانة الأميركي سابقاً لورنس سامرز "الشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه هو نقص الخوف".