ليس بالانتخابات وحدها يتم الانتقال من نظام شمولي إلى نظام ديموقراطي، والتجارب في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين أكدت الحاجة إلى ثلاثة عوامل مهمة لنجاح الانتقال: ثورة شعبية تعرف ما تريد، وجيش ينحاز إلى الشعب، ومرحلة انتقالية غير كلاسيكية. هكذا، كان الانتقال سلساً في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ولم يكن المسار واحداً في أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث نجح في بلدان وبقي حلماً في بلدان أخرى مثل فنزويلا.
أما في العالم العربي، فإن النجاح كان الاستثناء من القاعدة. في تونس، نجحت التجربة عبر مرحلة انتقالية بقوة المجتمع المدني والطبقة الوسطى وبقاء الجيش على الحياد بعد هروب زين العابدين بن علي. وفي السودان، بدأت المرحلة الانتقالية بعد عزل عمر البشير وتفاهم الجيش والثورة الشعبية على تقاسم السلطة في هذه المرحلة. وفي العراق، فشلت المرحلة الانتقالية التي "هندستها" أميركا بعد الغزو وأدارتها إيران عبر وكلائها، ولا أحد يعرف إلى ماذا ستنتهي الثورة الشعبية الحالية التي تواجه القتل والخطف والقمع؟. وفي ليبيا، انتهت تجربة ما بعد القذافي بحرب أهلية مستمرة منذ 2011 برعاية إقليمية ودولية. وفي سوريا، بقي النظام بدعم روسي وإيراني خلال حرب مستمرة أهلية وإقليمية ودولية. وفي الجزائر، اصطدمت الثورة الشعبية السلمية بإصرار الجيش وقائده الجنرال قايد أحمد صالح على رفض أي مرحلة انتقالية وفرض الذهاب إلى انتخابات رئاسية كخيار وحيد.
ذلك أن قائد الجيش لم يكن ضد التجديد للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ولا مع قمع المتظاهرين كما أريد منه، وقد بدّل موقفه عندما علم أن من سماها "العصابة" التي يديرها سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس تبحث في إقالته من رئاسة الأركان. ومن هنا بدأ السيناريو الذي حرص على تنفيذه: توظيف الثورة في طلب استقالة بوتفليقة ثم في سجن أفراد "العصابة"، ورفض تغيير الحكومة التي شكلها بوتفليقة، بالإضافة إلى رفض المرحلة الانتقالية وتعديل الدستور كما يطالب الثوار، واعتقال الناشطين "أيقونات" الثورة بحجة انتقاد الجيش، واعتقال حملة العلم الأمازيغي في الحراك، والإصرار على انتخابات رئاسية ترفضها الثورة، وأجريت على الرغم من المقاطعة الشاملة في منطقة القبائل، وامتناع أكثر من نصف الناخبين الـ24 مليوناً عن التصويت.
والمسألة ليست إن كان الرئيس المنتخب عبد المجيد تبون يستطيع أو لا يستطيع تحقيق ما وعد به من "حوار وتعديل دستور واستعادة المال الذي نهبته العصابة، التي تعرف مكان وجوده". فالثورة الشعبية ليست فقط من أجل تغيير بوتفليقة، بل أيضاً من أجل تغيير النظام بشكل جذري من الشمولية إلى الديموقراطية. وهي أيضا ثورة تحرر اجتماعي وإصلاح اقتصادي ونقل الجزائر من "ثورة المليون شهيد" التي حررت البلد من الاستعمار الفرنسي إلى ثورة العدالة والديموقراطية والتحولات البنيوية في المجتمع والاقتصاد والثقافة. فما فعلته الثورة حتى اليوم هو تهميش الأحزاب الموالية والمعارضة وتيارات الإسلام السياسي. وآخر ما يهم الجيل الجديد الثائر هو صراعات الماضي. وليس أمراً قليل الدلالات أن يقول علي بلحاج، الذي كان نائب رئيس "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" التي اكتسحت الانتخابات في الثمانينيات واضطر الجيش لإلغائها: تخلينا عن "الدولة الإسلامية" ونطالب بـ"الديموقرطية والدولة المدنية".
يقول المؤرخ الروماني تاسيتوس، "أفضل يوم بعد إمبراطور سيئ هو اليوم الأوّل". والسبب هو أنه سيكون في اليوم الثاني إمبراطور آخر سيئ أو أسوأ. وعلى طريقة المتنبي القائل "تعددت الأسباب والموت واحد"، فإن القاعدة في الجزائر هي: تعدد الرؤساء والسلطة واحدة. كل هالة أحمد بن بللا الثورية في النضال والسجن بعد اختطافه لم تشفع له في الجمع بين المنصب والسلطة، إذ انقلب عليه وزير دفاعه العقيد هواري بومدين عام 1965، ليحكم باسم جيش التحرير الشعبي وحزب جبهة التحرير الوطني. وكل الرؤساء الذين جاءوا بعده بمن فيهم الجنرالات والمدنيون والباقون على قيد الحياة من "القادة الخمسة" التاريخيين وبوتفليقة وزير الخارجية أيام بومدين، كانوا يدركون أن السلطة الفعلية هي للجيش وريث جيش التحرير صاحب الشرعية الثورية الأقوى من الشرعية الشعبية. وليس الجنرال قايد أحمد صالح صاحب السلطة الفعلية بمقدار ما هو ممثل سلطة الجيش وحارسها.
ولا فرق، سواء كان عبد المجيد تبون صاحب نيات إصلاحية أو تلطخت عهدته بما اتهم به من تلقي رشى لقاء وضع أموال وزارة السكن حين تولى حقيبتها في "بنك الخليفة" الذي أفلس وطارت الأموال، وبتورط نجله خالد المحبوس منذ 2017 لعلاقته بنشاطات كمال شيخي الملقب ببارون الكوكايين. فالأزمة التي قادت إلى الثورة باقية. والمشكلة، في جزء كبير منها، هي في الدستور الذي يركز السلطة في يد واحدة، بحيث تكون مؤسسات الدولة شكلية. و"لا شيء ممكناً من دون الإنسان، ولا شيء دائماً من دون المؤسسات"، كما قال جان مونيه مهندس السوق المشتركة التي صارت الاتحاد الأوروبي.