الدخول في الحداثة مرهون باتخاذ موقف نقدي في الفكر والسياسة والإجتماع. الأمر الذي أسس لنهضة عالمنا المعاصر وثورته المعرفية وتقدمه العلمي . لكنَ هذا لم يتحقق بعد في العالم العربي الذي يعاني من الأمية والقصور الثقافي وضآلة مراكز الأبحاث والرقابة الصارمة على الأفكار، والإنتهاك الفاضح لحقوق الإنسان، ما يستوجب المراجعة النقدية للواقع العربي وسلوك المنحى الحداثي في الفكر والمشاركة الإبداعية في الحضارة الإنسانية العتيدة .على هذه الخلفية الفكرية تبني نايلة أبي نادر مقدماتها النقدية . فالباحثة التي يمكن إدراج رؤيتها الإيديولوجية في إطار النقد الثقافي للمجتمع العربي الذي طرح على الفكر العربي أسئلته النقدية منذ سبعينيات القرن الماضي مع عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وهشام شرابي وناصيف نصار، تستأنف المسار النقدي الذي باشره هؤلاء في كتابها "الفكر العربي الحديث والمعاصر، نماذج نقدية" دار التنوير 2019 باعتبار النقد الطريق المؤدي إلى الإبداع ، واختراق دائرة الرتابة، والخروج على النمطية والإجترار.
تستلهم الباحثة التي قدمت إحدى أهم الدراسات في فكر محمد أركون النقدي، المشروع الأركوني الذي يبدأ بالحفر والزحزحة لكي ينتهي بالتجاوز والتحديث والإسهام الإبداعي في مشروع الحضارة الإنسانية. وقوام هذا المشروع تفكيك التركيبات المعرفية للعقل الديني، وعدم الإعتراف بإمكانية تأسيس نهائي ومطلق للعقل البشري، وتطبيق النقد التاريخي على التراث، واعتماد نظرة مغايرة للحقيقة والعمل على تفكيكها ليس فقط في الإطار الديني، وإنما أيضاً في الإطار الفلسفي.
تأسيساً على هذا المنحى الفلسفي الأركوني تناولت الباحثة تجليات الفكر النقدي عند بعض المفكرين العرب المعاصرين ،مركزة على الجانب الديني دون السياسي والإجتماعي، بدءاً من أمين الريحاني الذي أقام العلاقة مع المطلق خارج التقليد، وأغوته مغامرة البحث عن الحقيقة، وآمن بقدراته الذهنية لكي يبني تصوره الخاص بالألوهة والكون والحقيقة والسعادة . فكيف له أن يقبل بالتشوَه الذي سيصيب الخطاب اللاهوتي من قبل رجال اللاهوت في زمنه، وهو الذي اختبر عظمة الخالق وتسامي جوهره وحبه اللامحدود في إطار مغاير لما يشهده من انتهاكات وظلم؟ هل كان الريحاني يفصل بين الدين والتدين؟ وهل من أهداف واضحة المعالم لهذا النهج النقدي الذي اتبعه في التصدي للدين ورجاله؟
في رأي المؤلفة أن الريحاني تطرق إلى موضوع الدين من الناحية النقدية، ليس لنفيه وإنكاره، بل لتصويب ما يجده منحرفاً، أو لم يعد يناسب تطلعات زمانه، سيما وأنه اعتبر الحقيقة الدينية نسبية والتراث الديني من نتاج العلوم الإنسانية، وقد آلمه ما رآه من تزمت رجال الأكليروس ومحاربتهم لمعالم التمدن الحديث. إلا أنه ذهب في نقده إلى حد التطاول على بعض المسلمات، ما حدا بالكنيسة إلى مصادرة بعض كتبه وحرقها ورمي صاحبها بالحرم، لكن ذلك لم يكن لينفي عمق تصور الريحاني للألوهة والعلاقة التي تربطه بالله، بل لتأكيد الإنفصام بين أقوال رجال الأكليروس وأفعالهم. الأمر الذي شدَد عليه غالبية النهضويين من فارس الشدياق وفرنسيس المراش إلى جبران خليل جبران مروراً أديب إسحق وفرح أنطون.
وإذ تتطرق المؤلفة إلى فكر عبدالله العلايلي، ترى أن من يواكب كتاباته يلفته النظر النقدي الذي طبع مجمل مؤلفاته. فقد غامر في اختراق المحرم، ورفع قلمه في وجه التقوقع والتفرد في إمساك الحقيقة، وميَز الشك والمساءلة والمراجعة الدائمة منهجه النقدي الذي اتبعه في معالجته لمفهوم الدين، إذ نظر إليه نظرة تنويرية وشرّعه على التجدد والتأقلم مع الحياة، رافضاً عمليات التشويه التي تراكمت عبر التاريخ ، منتقداً التحجر، متقبلاً الاختلاف باعتباره خطوة معرفية واجبة وضرورية، داعياً إلى إبراز المشترك بين الأديان، شاجباً الدور الذي أداه رجال الدين في التغرير بالجمهورالساذج.
في قراءتها لفكر صادق جلال العظم رأت الباحثة أن النقد هو الأساس في درسه للفكر الديني وكيفية اشتغاله. فما الذي دفعه إلى مثل هذا النقد ؟ ميّز العظم بين معنيين للدين: الأول باعتباره بمثابة الجوهرالروحي الخالص، أما الثاني فمجموعة من الشعائر والتشريعات والمؤسسات التي تحيط بحياة الإنسان إحاطة شبه تامة. وقد هدف العظم إلى تحرير الشعور الديني من التقليد ليزدهر ويعبّرعن نفسه بطرق مناسبة للأوضاع التي نعيشها في القرن العشرين، ساعياً إلى إحداث صدمة نفسية من أجل التأسيس لتغيير ما على الساحة العربية الإسلامية مقارنة مع ما حدث بأوروبا ،من خلال مراجعة مفهوم الإعتقاد وما يتضمنه من قصص وأساطير وروايات.
وتعرض الباحثة للمنهج النقدي عند نصر حامد أبو زيد، فترى أنه توقف عند دراسة المجاز ودوره في فهم النص، فقد وصف الحضارة العربية الإسلامية بحضارة "النص" حيث التأويل يمثل الوجه الآخر للنص .وما انهمامه بدراسة المجاز إلا لكي يبين الإمتدادات التراثية للخطاب الديني المعاصر،حيث يصل إعجابنا بالتراث إلى حد التقديس وترسيخ الأسطورة، ليس على مستوى المعتقد، وإنما أيضاً على مستوى بنية الوعي الإجتماعي والسياسي، إذ إن الخطاب العربي تعامل مع المجاز بوصفه حقيقة، بشكل تنتفي معه إمكانيات فهم الواقع. وخلص أبو زيد إلى أن ربط مركبة اللغة والمجاز بقاطرة الدين والعقيدة هو المسؤول عن التشويش والإرتباك، ففي رأيه أن هذا الربط ليس جزءاً من العقيدة، ولا بدّ من فك الإرتباط بينها وبين الحياة في هذا العالم. لكن مثل هذه الدعوة لم تمر بسلام منذ زمن المعتزلة إلى زمن أبي زيد الذي كان له النصيب الوافر من عقاب أهل السلطة.
نرى ختاماً أن الكتاب تميَز بالجدة والأصالة، وقد أضاء في العمق على جوانب ثرية من فكرنا النقدي المعاصر، لا تزال موضع جدل وإشكال، بلغة أدبية راقية تقارب الشعر أحياناً، من دون أن يقلل ذلك من الرصانة الأكاديمية للمؤلفة ورؤيتها الفلسفية الثاقبة لأكثر إشكاليات فكرنا المعاصر تعقيداً، ما يجعل من الكتاب إضافة نوعية إلى الدراسات الفكرية النقدية العربية، تفتح مجالاً واسعاً للنقاش بصدد القضايا الإشكالية المعلقة في الفكر العربي منذ القرن التاسع عشر إلى الآن .