يقال عادة في عالم الفلسفة اليونانية القديمة إن أفلاطون الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للفلسفة من طريق الحوارات المدهشة التي تركها لنا جاعلاً من معلّمه سقراط بطلاً لمعظمها، أنه فيما يعكف معظم المبدعين في تاريخ العالم على كتابة سيرهم أو مذكراتهم بأنفسهم، آثر هو على أن "يكتب" بطريقة متقطعة وعلى مدى الحوارات، ما جاء في نهاية الأمر أشبه بسيرة لسقراط نفسه بحيث أنه هو، أفلاطون، بالكاد يكاد يطلّ من خلال ما يجري من أمور وما يدور من حوارات في يوميات حياة المعلّم. ومن هنا، حتى وإن كان ثمة سير عديدة تروي حياة أفلاطون، فإنها دائما ما اعتمدت على ما كتبه عنه ديوجين اللائرسي وآخرون. ومع ذلك علينا أن ننتقل في حديثنا من حوارات أفلاطون إلى متن كتابي آخر يُنسب إليه لنجد ما يشبه "سيرة ذاتية" كتبها بنفسه ويمكن إلى حد ما الاعتماد عليها للتعرف إلى أجزاء من حياة صاحب "الجمهورية" و"الشرائع".
رسائل معظمها مزيّف
ما نعنيه هنا هو ما يُتعارف على تسميته "رسائل أفلاطون" وهي عبارة عن ثلاثة عشر رسالة اعتاد مؤرخو الفكر نسبتها إليه ولكن بصدقية متفاوتة. بل أن لوك بريسّون، أحد كبار المختصّين بأفلاطون المعاصرين لنا، والذي أشرف قبل فترة على ترجمة وإصدار كل المتن الأفلاطوني في كتاب ضخم واحد مترجماً إلى الفرنسية، يرى أن ليس ثمة من بين تلك الرسائل الثلاثة عشر سوى اثنتين يمكن الوثوق بنسبتهما إلى أفلاطون هما السابعة والثامنة، أما الباقي فغالباً ما يكون منحولاً عليه. والحقيقة أن ما يهمنا هنا هو الرسالة السابعة التي يجزم بريسّون بكونها أفلاطونية حقاً، وتهمنا لأنها تضم نتفاً لا بأس بها من سيرة أفلاطون مدوّنة بقلمه، وهي مكتوبة بصيغة الـ"أنا" ما يجعلنا نميل إلى إعتمادها ليس فقط كسيرة للفيلسوف بل كذلك من ناحية لا بأس بها، كمرجع لدراسة فكره السياسي ومن ثمّ لدراسة جذور علاقة المثقف، كل مثقف، بالسلطة وهي المسألة التي لن يفوتنا ملاحظة حضورها في كل زمان ومكان ولا سيما في تراثنا العربي/الإسلامي ( من "كليلة ودمنة" إلى كتابات النهضويين مروراً بالسيرة التي كتبها إبن خلدون لنفسه بعنوان "التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً") ونعرف أن كثراً من الباحثين دائماً ما انكبوا على دراسة هذا الموضوع، وغالبا انطلاقاً من تلك الرسالة الأفلاطونية السابعة. فما هي هذه الرسالة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هي كما حال الدزينة الأخرى من الرسائل الأفلاطونية، نص يتحدث فيه الفيلسوف بلغة الذات مباشرة، وتعتبر السابعة الأكثر أهمية كما ألمحنا. وهي التي يوجهها أفلاطون، من بعد اغتيال حاكم سيراكوزا في صقلية ديون الذي كان قد ارتبط به من قبل كمستشار وناصح، إلى أصدقاء هذا الأخير وأهله إذ سألوه النصح عن الكيفية التي يمكن بها إصلاح الأمور بعدما حدث ما حدث وحلّ الطاغية دينيس في الحكم محل ديون. غير أن أفلاطون من خلال إسدائه النصح بشكل يجعل الرسالة السابعة (وكذلك الثامنة التي يمكن اعتبارها استكمالاً لها بشكل ما) نوعاً من وصية سياسية ناهيك بكونها تحمل موجزاً لفكر أفلاطون الفلسفي السياسي الذي لطالما عبّر عنه في كتبه الأساسية الأخرى. وهنا لا بد من الإشارة أن الزمن الذي كتب فيه أفلاطون تينك الرسالتين تلا، وبفارق كبير من السنين، الرحلات الثلاث الأساسية التي قام بها إلى سيراكوزا ولم تُكلل بالنجاح الذي كان يتوخاه منها، هو الذي بحث لدى ديون ثم لدى خلفائه – ومنهم من كان أصلاً تلميذاً له – عن حاكم يتبنى "طوباويته" السياسية ومبدأ الحاكم الفيلسوف وما إلى ذلك من شؤون تربوية وعسكرية. والحقيقة أننا نجد كل ذلك ماثلاً في الرسالة التي نحن في صددها ومكتوباً أحيانا بصيغة مريرة تعبّر عن خيبة أمل المفكر في سلطة كان يعوّل عليها كثيرة، ونعرف أنها وصلت مرة، بغية التخلص منه إلى بيعه كعبد إلى سفينة قراصنة!
الحكم والفكر والذات
المهم في نهاية المطاف أن الرسالة السابعة تشتغل على ثلاثة مستويات: رسم مفاهيم للحكم وإعادة بناء الدولة بعد الخراب والعنف اللذين تليا مقتل ديون؛ تصحيح ما وُزّع من أفكاره على يد كتّاب استأجرهم الطاغية دينيس كي ينحلوا على أفلاطون أفكاراً لم تكن له وتناسب مصالح الحاكم الجديد الزاعم أنه تلميذ أفلاطون؛ وأخيراً رسم خطوط سيرته من خلال ذلك بالإرتباط مع رحلاته إلى سيراكوزا وإقامته فيها في كل مرة آملاً أن يطبق فيها مشاريعه الفكرية – السياسية. وعلى هذا النحو يمكن رسم المسار العملي والفكري الذي تصوّره الرسالة على الشكل التالي: ففي المقام الأول هناك ديباجة تصور مفاهيم أفلاطون الفلسفية السياسية يليها حديثه عن رحلته الأولى إلى سيراكوزا بدعوة من ديون الذي خيّل إلى الفيلسوف الأثيني أنه سيتبنى أفكاره ويقيم الحكم المثالي. ولسوف تنتهي تلك الرحلة الأولى بأول خيبات أفلاطون حين حلّ دينيس الثاني في الحكم محل ديون المنقلَب عليه. ولكن دينيس سرعان ما دعا أفلاطون للعودة إلى سيراكوزا آملا منه أن يرسم له خطوط تحرّك سياسي ملائم، وإذ توجه الفيلسوف إلى هناك متحمساً، عادت الخيبة واعتصرته من جديد وتحديداً، كم يقول هو بنفسه "بسبب مواقف دينيس غير الواضحة ولا معرفته بما يريد حقا". ومع هذا ها هو أفلاطون يوجّه نصائحه، في صفحات رائعة تبدو مستقاة من بعض أقوى فصول "الجمهورية"، إلى الحكام الجدد راسماً لهم من جديد ملامح الحكم الأكثر تلاؤماً مع تطلعات الفيلسوف، بل أي فيلسوف عادل ومنصف. غير أن هذا لا يمنع فيلسوفنا من طرح سؤال يبدو له جوهرياً و...محبطاً في الآن عينه: ما الذي يمكن للفيلسوف أن يفعله حقاً إن كانت السلطة نفسها فاسدة ولا تريد إصلاحاً إلا على الورق؟ هنا يضمّر أفلاطون في جوابه فكرة أن هذا النوع من الحكام إنما يريد من المثقفين أن يكونوا مجرد دمى وأن النصح الذي يسألونهم إياه لن يكون إلا زينة برّاقة.
وهنا في هذا السياق لا يكتفي أفلاطون بطرح هذا الحكم القاطع لكنه يشرح حيثياته بالتفصيل عائداً إلى مقتل ديون نافياً مسؤولية الأكاديمية، المعنوية على الأقل، عن تدبير تلك المؤامرة. وهنا يعود أفلاطون من رحلته الثانية وهو غير واثق من أن كلامه قد سُمع وأن الحكام الجدد وعلى رأسهم دينيس سوف يعملون بنصائحه. لكنه ما أن يصل إلى أثينا، كما يخبرنا في السرد المتعلق بسيرته هنا، حتى يبدأ التحضير لرحلته الثالثة والأخيرة، ومن جديد بدعوة من الحكام الذين بُهروا كما يبدو بما دونه أفلاطون من أفكار جديدة من أبرزها، كاستخلاص لدروس الرحلة الثانية، أن "الفلسفة يجب أن تُعاش لا أن يُكتفى بتدوينها في الكتب" وهنا يرسم أفلاطون صورة واقعية عميقة لما يسميه "عناصر المعرفة الخمسة" مشدداً على أن "التعبير اللفظي ليس في حقيقته سوى عائق في وجه التفكير الخالص" واضعاً للمعرفة الحقيقية شروطاً أخلاقية... ولا بد من أن نلاحظ هنا كيف أن أفلاطون ختم هذا كله بنوع من المقارنة العملية، الجريئة على أي حال، بين تلك الأنساق الفكرية وكتابات دينيس نفسه الذي خُيّل إليه كما يبدو أن أفكار أفلاطون قد تجسّدت فيه، ومن هنا دعاه إلى تلك الرحلة الثالثة إلى سيراكوزا... والتي عاد منها أفلاطون وقد تقدّم به العمر، محبطاً تماماً عازماً على ألا يخوض مثل تلك التجربة من جديد وهو ما يصارح به ديون إذ "يلتقيه" في الأولمب شاكياً له أفعال خلفائه بلغة شاعرية ذاتية فريدة من نوعها في سياق المتن الأفلاطوني.