بعد الصورة الواقعية في محدودية التظاهرة والمكان، إذ تراوح العدد بضعة آلاف، وليس "مليونية" كما دعا إليها مقتدى الصدر في 24 يناير (كانون الثاني) الحالي، وكانت الحركة محصورة بين ساحتيْ المسبح والحرية في منطقة الكرادة شرق بغداد، التي فيها مقرات الأحزاب والمجموعات المسلحة المدعومة من إيران، واستغرق وقتها زهاء الساعتين من الزمن، وتلاشت سريعاً.
وكانت بخدمة المتظاهرين، من الصدريين وأذرع إيران، حافلات تنقلهم وطعام ومبلغ مالي وبطاقات هاتفية، وتحت حماية أمنية مشددة، فلم يطالهم الرصاص الحيّ ولا القنابل الغازية والدخانية، ولا طلقات القناصين وتخريب المندسين، وعمليات الخطف والاعتقال والقتل، كما يحدث في عموم التظاهرات والاحتجاجات في المحافظات المنتفضة منذ أكتوبر (تشرين الأول) من العام المنصرم.
فضلاً عن غياب الصدر وقيس الخزعلي وهادي العامري وبقية الزمرة الموالية لإيران، التي توعدت علانية بخروج القوات الأميركية من العراق، وإن هذه التظاهرة هي الشرارة الأولى. والأنكى من ذلك، أن المدعو أبو درع، الذي قتل من العراقيين (السُّنة) أعداداً هائلة ما بين 2006-2008 تنفيذاً للمشروع الطائفي الإيراني، ترأس التظاهرة نيابة عن الصدر، على الرغم من صدور أوامر قضائية عدة باعتقاله.
وعندما أدرك الصدر فشله في تحقيق هدفية التظاهرة، وإن الشباب الثائر تجاوزوه ولفظوه، ولن تنطلي عليهم خدعه والتفافه على وجودهم وحقوقهم، طلب من أتباعه الانسحاب من ساحات الاحتجاجات والاعتصامات، لكن البعض منهم رفض التنفيذ، مفضلين البقاء من أجل الوطن، بل حتى التخلي عن التيار الصدري وخلع العمامة، الشيخ أسعد الناصري نموذجاً.
وما أن سحب الصدر أتباعه حتى بدأت القوات الأمنية والفصائل المسلحة المدعومة من إيران بالهجوم على ساحات الاعتصامات في بغداد وذي قار والبصرة وبقية محافظات الوسط والجنوب، وحرقوا الخيام وسقط ضحايا وجرحى، واعتقلوا الكثير. وتمادى الصدر بموقفه مُدعياً إنه يساعد الحكومة في بسط الأمن، بيد أنه مسؤول عما جرى ويجري بحق المتظاهرين السلميين، ما دفع أكثر بتخلي البعض عنه.
وفي اليوم التالي، تحدياً للهجوم واستجابة للنداء، زحفت جموع بشرية غفيرة إلى الساحات في تلك المحافظات، لتبرهن ترسيخ الوعي المجتمعي، وأن الصدر مجرد ورقة إيرانية احترقت. كان الصدر وعزة الشابندر وحاكم الزاملي ومَنْ لف لفيفهم، يقولون "إذا انسحب اتباع التيار الصدري من الساحات فلن يبقى فيها مئة متظاهر".
خيانة الصدر
استعرت هجمات القوات الأمنية والمجموعات المسلحة على المتظاهرين، الذين يجددون خيامهم المحروقة، ويدافعون بأيديهم وأجسادهم عن مقراتهم الاحتجاجية، ويقدمون التضحيات بكل بسالة وشهامة، وعدَّوا تلك الهجمات إلى خيانة الصدر الذي غدر بهم.
وفي بيان شديد اللهجة ضد الصدر، أصدرت اللجنة التنسيقية للتظاهرات بياناً قالت فيه، إنه خان "الأحرار"، وأكدت اللجنة "إن متظاهري العراق لم يخرجوا إلى الساحات بفتوى دينية أو تغريدة صدرية"، داعية الصدر وأتباعه ألا يراهنوا على نفاد صبر المحتجين، بل باقون في الساحات حتى تحقيق المطالب، وأنهم "لن يكونوا ورقة على طاولة المتاجرة السياسية كما فعل الصدر".
كما أوضحت اللجنة التنسيقية أن "تخلي الصدر وخيانته للمتظاهرين" سيكون ثمنها رئاسة الحكومة المقبلة، بحسب ما وعدته إيران".
وفي تصريح لصحيفة واشنطن بوست، أشار الرئيس الأميركي دونالد ترمب قائلاً، "إيران هي مَنْ اتخذت مقتدى الصدر ألعوبة ثم جعلته أضحوكة".
أمّا المرجع الديني حسن الموسوي فقال، "إن رعونة مقتدى القُمّي وتصرفاته الصبيانية ستقود البلاد إلى حرب أهلية لا تحمد عقباها. فعلى العشائر العراقية الأمينة أن توقف هذا الصبي عند حده. أين حكماء أهل الحل والعقد؟".
الآن، وكالعادة، الشباب المنتفض يملأ ساحات الاحتجاجات والاعتصامات، ومعهم كل مَنْ يريد استعادة الوطن وتطهيره من أحزاب الفساد وهيمنة إيران. إن انسحاب الصدر كان قراراً إيرانياً فشلت فيه، كما فشلت بزج أذرعها المسلحة بالسيطرة عنوة على ساحات الاحتجاجات، ساحتيْ الخلاني والوثبة في بغداد، وساحة الحبوبي في الناصرية مثالاً.
وهكذا، فالصدر آخر أوراق إيران احترقت نهائياً، وانتهت لعبته الإصلاحية الفضفاضة، وبذلك يقترب المشروع الإيراني الصفوي من نهايته في العراق أكثر فأكثر.
مسيرة مليونية نحو بغداد
في مجابهة التصعيد العنيف للقوات الحكومية والمجموعات الموالية لإيران، اتخذ متظاهرو محافظة ذي قار خطوة تصعيدية أخرى، لإدامة زخم التظاهرات السلميَّة والدفع باتجاه تحقيق المطالب المشروعة. وفي هذا الصدد، دعا الدكتور علاء الركابي، أحد قادة التظاهرات، جميع متظاهري المحافظات إلى مسيرات مليونية راجلة نحو العاصمة بغداد. وقال الركابي إن "المسيرات ستبدأ الجمعة المقبل" الموافق 31 من الشهر الحالي، وتنطلق من البصرة وتصل إلى بغداد في 15 فبراير (شباط) المقبل. وطالب القوات الأمنية بالعمل على حمايتها. وجراء هذه الدعوة تعرض الركابي إلى محاولة اغتيال فاشلة، ولا تزال حياته في خطر.
إن خطة الركابي، زحف بشري مدوي صاعد من جنوب إلى الوسط نحو بغداد، وتطويق المنطقة الخضراء بطريقة سلميَّة، من أجل اختيار رئيس وزراء مستقل يمهد لانتخابات مبكرة. وفي حال فشل مجلس النواب ورئيس الجمهورية في هذا الشأن، سيدعون المحكمة الاتحادية إلى اتخاذ قرار باختيار رئيس وزراء مستقل يقود إلى انتخابات مبكرة.
في خضم ما يجري في العراق من عنف يومي متفاقم، توجد أيضاً دعوات أخرى في سبيل حلول سلميَّة، من بينها، على المتظاهرين رفع علم الأمم المتحدة طلباً للحماية الدولية، وفي تشكيل وفد من المتظاهرين يذهب إلى مقرات الأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، الهدف تدويل الوضع في العراق.
مهما تنوعت الدعوات وكثرت، فكلها تصب في صالح الحراك الشعبي السلمي ضد أحزاب الفساد وأذرع إيران الإجرامية. وما إدانة 16 دولة، معظمها غربية، في بيان مشترك بتاريخ 27 من الشهر الحالي "ضد استخدام العنف المفرط والمميت من قِبل قوات الأمن العراقية والفصائل المسلحة ضد المتظاهرين المسالمين"، إلا تأكيداً دولياً لجانب حقوق الشعب العراقي، الذي يجابه أذرع إيران الإرهابية.