الجزائر جُزر، لم تلتئم جراحُها منذ الاستقلال، وحتى العشرية السوداء، فالربيع العربي الذي اجتاحها مؤخراً، ومنذ الثورة وحتى الساعة، مصابة الدولة بالمرض العضال: معضلة السلطة ما بعد الاستعمار، وهذا المُعضل انعكس على علاقاتها بجيرانها، من لم يستوعبوا السلطة الجزائرية، ما انبثقت من جبهة تحرير، خاضت حرباً مسلحة، قادتها العسكر يقودون البلاد منذ الاستقلال، وعينهم على خارجها.
الأهم في هذا أن حكام الجزائر بقوا، على الرغم من تعددهم، على مبدأ، اعتبار أن أزمة الجزائر خارجية، وأن واجهة الخطر الخارجي، النظام الملكي المغربي، ما دخلوا في حرب معه، غبّ الاستقلال 1962.
وفي هذا الخضم، سارت علاقة حكام الجزائر بليبيا، في فترة المملكة الليبية، فجعلت العلاقات في حالة ركود واضح، فالمملكة الليبية في وقائع سنوات الثورة الجزائرية، كانت الملاذ والمتراس، ولعل ما مثّل العروة الوثقى لهذه العلاقة، مكانة "ميثاق طرابلس" في تاريخ الثورة الجزائرية، ما عُدَّ دستور جبهة تحرير الجزائر، ثم أن المملكة الليبية لم تمثل خطراً، بل سداً بين الجزائر ومصر الناصرية! ولم يغب عن قادة الجزائر حينها، أن الملك الليبي إدريس السنوسي أصيل الجزائر، وعلى غير وئام بالمملكة المغربية.
عقب الانقلاب العسكري الليبي سبتمبر (أيلول) 1969، تغير المسار بزاوية حادة، لقد نجح الملازم معمر القذافي في الاستيلاء على البلاد، بروح متطرفة في العداء للأنظمة الملكية، ما ظهر في ديسمبر (كانون الأول) 1969، في مؤتمر القمة العربي المنعقد حينها في المغرب، لكن على الرغم من ذلك فإن العلاقة، بين القذافي وقادة الجزائر المتعاقبين، كانت على سطح صفيح ساخن.
حتى ثورة 17 فبراير (شباط) 2011 الليبية، في خضم الربيع العربي، ما ناصبه العداء، نظام بوتفليقة الثوري الجزائري! حيث من هذا انحاز "نظام بوتفليقة"، إلى " القذافي" و"طرابلس"، ضد "17 فبراير" وقادته في بنغازي، وتقريباً لم تخرج جزائر "جماعة بوتفليقة"، عن هذا المسار على الرغم من تغير المعطيات، ومبرر ذلك أن "الجماعة"، ما كُنيت عقب سقوط نظام بوتفليقة بـ"العصابة"، اعتبرت السلطة في ليبيا، سلطة القوى المسيطرة في العاصمة طرابلس: مجلس الرئاسة ومجلس الدولة، لكن لم تبلع أن يكون غطاء هذه السلطة، قد جاء من "الصخيرات" المغربية، وهذا ما يصيب حكام الجزائر، الرواسخ منذ 1962، بالهواجس والشكوك فالارتباك.
الجزائر المحكومة بالقوة، في حرب مع المملكة المغربية منذ الاستقلال 1962، وبالفعل وكيلها في الحرب "الجمهورية الصحراوية"، هذه الجزائر منقسمة على نفسها، في المسألة الليبية، فعقلها في طرابلس، لكن قلبها تنغصه دبابير "الصخيرات"، ومن هذا كانت في حالة مد وجزر، فتارة ليبيا مسألة داخلية جزائرية، وتارة تغطس الجزائر في أزماتها المتفاقمة، حتى اجتاحها الربيع العربي، في موجته الثانية، فغاصت في أوحال "عصابة بوتفليقة".
لكن الجزائر المنهكة القوى، الغارقة في أزماتها الداخلية، يمكن أن تكون "المسألة الليبية"، طوق نجاة خارجياَ للسلطة القديمة المتجددة فيها، هذه السلطة التي منذ الاستقلال، متراسها العدو الخارجي، حدودها الشرقية باتت كما الغربية، تهدد أمنها، هذا المبرر القوي لتصدير الأزمات الداخلية، يوطده التدخل التركي السافر في ليبيا، ويحتم على الجزائر الإمساك بقبضتها، على الجمر الليبي، مخافة حريق البيت الداخلي.
فجأة، وبعد سنوات عجاف، سقطت ليبيا في جحر الجزائر، كالصاعقة، عقب زيارة هامة لأردوغان، القائد التركي القادم من التاريخ، وعقب مؤتمر دولي مدوي في برلين، ما صرحت أثناء انعقاده، الدولة العظمى المشاركة فيه، الولايات المتحدة عبر وزير خارجيتها بومبيو، بأن نتائجه ضعيفة، ثم تتالت الدول الكبرى على توكيد ذلك. في مضمار شائك كهذا، كل مؤشراته غامضة ومتناقضة، تجيء المبادرة الجزائرية، من دولة تهوى لعب دور الوسيط، منذ الوساطة بين صدام وشاه إيران، زمن الرئيس هواري بومدين.
الجزائر الليبية حقيقة غائبة، حيث في التاريخ مسكوت عنها، وفي الجغرافيا كأن لا حدود مشتركة، وفي الحرب الليبية الأهلية، المستعرة منذ زمن، تنكر الجزائر أي وجود لها، وكأن ما يحدث، يحدث في كوكب المريخ، وفي هذا موقف طريف لا يلفت النظر، هو المشترك بينها والولايات المتحدة، فكل منهما يظهر عدم الاكثرات، الاهتمام، الأهمية، خلال عقد تقريباً، فالمسألة الليبية التي تدور حولها الدوائر، كحريق في البحر المتوسط، تدعو إلى القلق ليس إلا، وإن حلها ليس عسكرياً، حلها اللاحل، أو كما يفعل المندوب السامي للأمم المتحدة في ليبيا.
من هذا تنهض المبادرة الجزائرية من قمقم، كمارد مصباح ألف ليلة وليلة، من يستيقظ من سُبات بعد دهر، على الرغم من دوي المعارك، يستيقظ ليسكت المدافع، والحريق في أوج انتشاره.