بريطانيا العظمى مملوءة بالمفارقات. أقامت إمبراطورية عالمية، وحافظت على "عقلية الجزر". فقدت العظمة، ولا تزال تكابر رافعة شعار "لنجعل بريطانيا عظيمة ثانية"، كما رفع دونالد ترمب شعار "لنجعل أميركا عظيمة ثانية". هي في أوروبا، وضد أوروبا منذ هزمت الغزو الروماني قديماً، وصار من ثوابت سياستها الخارجية "أن القارة هي العدو". ويروي البروفسور تشارلز بروخ في كتاب "الرايخ الثالث والعالم" أن هتلر عرض على البريطانيين "اقتسام العالم". قال لهم "خذوا البحر واتركوا القارة لي والشرق الأقصى لليابان، فرفضوا، لأن سياسة بريطانيا منذ العصر الأليزابيثي هي عدم السماح بتوحيد أوروبا تحت سلطة أو قوة واحدة".
ولعل قراءة رئيس الوزراء نيفيل تشامبرلن في العرض الألماني كانت من بين العوامل التي دفعته إلى "اتفاق ميونيخ" مع هتلر وأوهام "السلام للقارة". وعلى العكس، فإن قراءة ونستون تشرشل في الجيوبوليتيك قادته إلى مواجهة هتلر في الحرب العالمية الثانية. وهي أيضاً القراءة التي جعلت الجنرال ديغول يرفض في العام 1961 طلب بريطانيا عضوية السوق المشتركة التي صارت الاتحاد الأوروبي، مع أنه لم يجد أمامه في الحرب بعد اجتياح ألمانيا فرنسا سوى اللجوء إلى لندن التي ساعدته على لعب دور مع الحلفاء في تحرير بلاده. وما استطاعت بريطانيا نيل العضوية قبل العام 1973. لكن التشكيك بأوروبا استمر. مارغريت تاتشر، كما يقول تشارلز مور في كتاب عن سيرة حياتها، كانت تعرف أن شكوكها الأوروبية وصداماتها مع أنصار التوجه الأوروبي في حزبها وحكومتها ستنتهي إلى سقوطها، لكنها عاندت ودفعت الثمن. ديفيد كاميرون تصور أنه يستطيع تحدي منافسيه المعارضين للتوجه الأوروبي ويربح فخسر استفتاء "بريكست". بوريس جونسون الذي سئل عندما كان طفلاً عما يريد أن يكون فقال: "ملك العالم"، ربح "بريكست" وضمن رئاسة الحكومة.
هكذا، بعد 47 سنة من "الرقص مع العدو"، خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى حيث الأسئلة الصعبة الحائرة بين القلق والاطمئنان. أسئلة عن مستقبل بريطانيا: هل ستكون، كما يقال، نوعاً من "سنغافورة على نهر التاميز" أم تواجه كابوس ما بعد الأحلام الوردية حول "بريطانيا كونية" في السياسة الخارجية؟ هل تبقى المملكة المتحدة العظمى أم تصبح "إنجلترا الصغيرة" بعد "الاستقلال" الذي تطالب به اسكوتلندا وقد تلحق بها ويلز وإيرلندا الشمالية؟ ماذا عن الاتحاد الأوروبي بعد خروج أقوى قوة عسكرية أوروبية وخامس اقتصاد عالمي؟ أي مستقبل لأوروبا الذي يدعو الرئيس إيمانويل ماكرون إلى مؤتمر للبحث فيه؟ هل يمكن الاندفاع على طريق حلم كبير هو إقامة "الولايات المتحدة الأوروبية" على غرار "الولايات المتحدة الأميركية" أم لا بد من خطوة إلى الوراء نحو "اتحاد مرن"؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا أجوبة سهلة، لا في بريطانيا، ولا في أوروبا، ولا في رهان الشرق الأوسط بشكل خاص على قوة أوروبية أكثر فهماً من أميركا وروسيا والصين لقضايا المنطقة. إذ يرى إستراتيجيون أن "أوروبا قوة في العالم لكنها ليست قوة عالمية". ويقول وزير الخارجية الألماني سابقاً زيغمار غابرييل إن أوروبا اليوم "نباتية" في عالم من "أكلة اللحم". فالشخصية الأوروبية المتجردة من الهويات القومية لم تتحقق كما في الأحلام. وبيروقراطية بروكسيل تزيد من لا شعبية الاتحاد الأوروبي.
ومقابل من يبكي على الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، هناك من يرى أن "الدولة– الأمة هي المظلة التي تحمي من المطر القوي للعولمة النيوليبرالبية"، كما يقول فينتان أوتول في كتاب "سياسة الألم: بريطانيا بعد الحرب وصعود الوطنية". لكن أستاذ التاريخ في كلية الملك ديفيد أوجرتون يذهب إلى أبعد، فيرى أن "نهاية المملكة المتحدة أمر جيد"، لأن الرهان على "أمة بريطانية" هو "فانتازيا قصيرة العمر". فالعظمة انتهت عملياً مع نهاية الإمبراطورية. وزمن السياسات القديمة تغير. لكن من الصعب تجاهل نقاط ضعف كثيرة تحت السطح اللامع. وأقل ما يعد به بوريس جونسون هو "المساواة في التنمية" بين كل أنحاء المملكة، بحيث "لا يكون ما يحدد حظك هو مكان ولادتك".
فالمشكلة في العالم كله مزدوجة: العولمة أيقظت القوميات والإثنيات. القوميات في الاتحاد السوفياتي كانت تتذمر بصمت من سيطرة القومية الروسية، وحين استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم تصبح، مع استثناءات محددة، في وضع أفضل. انفصال جنوب السودان بعد حرب طويلة مع الديكتاتورية العسكرية في الشمال لم يمنع قيام حرب أهلية في الدولة الوليدة. وأنجح التجارب حتى الآن هي الخروج داخل الدول من المركزية الشديدة إلى الفيدرالية. وعلى العكس، فإن في تكساس حركة تضم ثلاثمئة ألف عضو برئاسة دانيال ميلر تطالب بالانفصال عن الولايات المتحدة بعد 175 عاماً من دخول الفيديرالية. وبين الحجج أن دخل تكساس هو 1.7 تريليون دولار، وستكون الاقتصاد العاشر في العالم.
لكن مجلس التعاون الخليجي كان ولا يزال تجربة ناجحة تزداد نجاحاً واكتمالاً. والاتحاد الأوروبي نفسه مشروع رؤيوي أخرج الدول الأوروبية من الصراعات التاريخية وأدخلها في مستقبل سلمي واقتصادي زاهر. ولا تغيير للواقع من دون خيال وأحلام.