لا يحدث هذا الأمر كثيرا في مجال العلاقة بين المسرح والسينما. ففيلم "ليلية الإيغوانا" من كتابة الأميركي تنيسي ويليامز اعتبر دائما عملا مكتوبا للسينما مباشرة بطلب من جون هستون. بل إن البعض اعتبره واحدا من الأعمال القليلة التي وصلت إلى سينما المخرج جون هستون مباشرة هو الذي كان وظل طوال حياته يشتغل على أفلام يقتبسها من أعمال أدبية. لكن حقيقة الأمر التي لطالما جرى تجاهلها وباتت في حاجة دائمة إلى من يذكّر بها، هي أن هذا الفيلم بدوره لم يشذ عن القاعدة الهستونية: كان هو الآخر فيلما مقتبسا عن نصّ أدبي إنما عن نصّ مسرحي هذه المرة. بيد أن التحويل السينمائي كان من السرعة بحيث لم ينتبه سوى غلاة الهواة إلى الأصل المسرحي ناهيك بأن التقديم الأول للمسرحية كان في لندن أواخر أيام العام 1961 فيما حُقّق الفيلم وانتشر بعد شهور قليلة من بطولة ريتشارد بورتون وإنغريد برغمان، قبل انتشار أخبار المسرحية. بيد أن هذا الأمر لا يبخس البعد المسرحي لــ"ليلة الإيغوانا" حقه وإن كان يمجّد سينمائيّة مبدع عرف كيف يستحوذ تماما على عمل يؤفلمه بدرجة كبيرة من الجودة. وهنا ها نحن نساهم في إعادة "ليلة الإيغوانا" إلى المسرح باعتبارها واحدة من آخر الأعمال الكبيرة الناجحة لويليامز.
أزمة الروح القاسية
كالعادة في معظم مسرحياته الكبيرة، يجعل تنيسي وياليامز من مثقفين يعيشون لحظة إنعطاف في حياتهم، شخصيات رئيسية في نوع من "دراما حياة يومية" تدور أحداثها الأساسية في فندق سياحي مكسيكي متوسط المستوى تديره ماكسين فولك المترمّلة حديثا والتي تعيش أيامها مستقبلة السواح الأميركيين وكلها ظمأ للتواصل مع البشر في وقت تعيش فيه أزمة روحية حادة – سيكون من الواضح لنا فيها أنها إنما تعكس الأزمة الروحية التي كان يعيشها هستون كما ويليامز وقد تقدما في العمر عتيّاً! -. والحال أن ماكسين تعثر على سلامها من خلال رجل دين سابق طُرد من الكنيسة بسبب اتهامه بفضيحة جنسية (شانون)، الذي ها هو اليوم قد تحوّل إلى دليل سياحي يمضي وقته في اجتذاب السائحين ليقيموا في الفندق. وتنفجر أزمة ماكسين حين يأتي ليقيم في الفندق بسيدة حسناء تدعى هانا شيريل وجدّها الشاعر نونّو الذي يبدو منهمكا في كتابة قصيدة جديدة تعصى عليه، فيما تبدو حفيدته مهتمة منذ وصولها بالدليل السياحي دون أن تكون للإهتمام أبعاد جنسية، بل لدوافع روحية يلتقي الشاب والفتاة عليها. أمام هذا التطور الذي تستشعره ماكسين تبدأ هذه الأخيرة تحركها النابع أولا من غيرتها ولكن أيضا من عجزها عن أن تخوض نفس اللغة الروحية التي يخوضها الإثنان، وذلك بالتزامن مع طرد الدليل، شانون، من قبل أصحاب شركته بتهمة محاولة التقرب من صبية صغيرة في السن عضو في فريق مسرحي يصل للإقامة في الفندق. وهنا إذ يُجنّ جنون شانون تتدخل ماكسين لإيوائه في كوخ ملحق بالفندق ربط فيه عمالها المكسيكيون "عظاية" استوائية ضخمة في انتظار أن يحولوها وجبة دسمة لهم. وهكذا يبدو وكأن مصير شانون بات مرتبطا بمصير تلك "الإيغوانا"، فيما تسعى هانا، وجدها إلى تدبير شؤونهما المعيشية ببيع لوحات وقصائد للسواح، في وقت يكتشف فيه شانون وهانا الكثير مما يقرّب بينهما من خلال تبادلهما الحديث أمام غيظ ماكسين. وهنا إذ يقترح شانون على هانا أن يستجمعا قواهما لتحرير نفسيهما ترفض الأخيرة ذلك مستبدلة الفكرة بتوحيد أجزاء الإيغوانا المقطعة كدليل على رحمتهما المشتركة وتوقهما الروحي الذي سيكون هو المنتصر في النهاية حتى ولو بقي شانون مع ماكسين ومات الجد فور إنجازه قصيدته.
الأسئلة والأجوبة... أخيرا
لقد كان من الواضح هنا أن "ليلة الإيغوانا" هي أقرب إلى أن تكون مسرحية بحث روحي كما أشرنا أعلاه وعملا يحاول فيه الكاتب أن يجد من خلال واقع لا لبس فيه، أجوبة على أسئلة واضحة هذه المرة بعدما كانت شديدة المواربة في معظم أعماله السابقة التي لم يكن دقيقا وسمها بالواقعية المطلقة. لقد كشفت هذه المسرحية المتأخرة في مسار ويليامز وحياته أن معظم أسئلته إنما كانت دائما بحثا روحيا وقلقا وجوديا عرف كيف يخفيه خلف صراعات شديدة المادية وخيبات دائما ما كانت تصوّر فشله في العثور على هذه الأجوبة التي هاهو يتوصل اليها الآن وهو في الخمسين من عمره...
لقد أتت "ليلة الإيغوانا" لتذكرنا بأن تنيسي ويليامز حين كتـب نصوصه المليئة بالتشاؤم، والتي غالباً ما تدور أحداثها في الولايات الجنوبية الأميركية، كان يعبّر عن الانسان، عن الشرط الانساني بصورة عامة، وعن الصدام بين تطلعات الانسان والضوابط التي يرسمها المجتمع في وجهه. بمعنى ما كان مسرح تنيسي ويليامز، انتفاضة حقيقية ضد الاستلاب والقهر اللذين يعيشه الانسان المعاصر، ولكن هذا المسرح لم يبتسم لهذا الانسان المقهور بل عبّر عن خيبته بقسوة ندر أن عبّر عن مثلها أي مسرحي أميركي آخر، إذا استثنينا آرثر ميلر ويوجين أونيل، علماً أن هذين كانا يرسمان على أي حال، عبر إشارة أو علامة، ضوءاً في آخر النفق، حتى ولو لم يوصلا شخصياتهما إليه.
والواقع أنه قبل "ليلة الإيغوانا" لم يكن لدى تنيسي ويليامز أي ضوء في آخر النفق. أما الانتفاضة الحقيقية فتكمن في معرفة الانسان هذه الحقيقة. هذه الانتفاضة كانت علامتها الأولى والأشهر مسرحية «الحيوانات الزجاجية» التي كتبها ويليامز في 1944، ورسم لنا فيها حياة أسرة في مدينة سانت لويس: أم وابنها وابنتها العرجاء لورا. الأم تعيش ذكريات مجدها كواحدة من فاتنات الجنوب ولا ينفع معها تنبيه ابنها توم لها على واقعها وواقعهم الجديد. أما هي فإنها تأمل في أن تستعيد تألقها عبر تدبير زواج لابنتها لورا. إنها تبني من الآمال على تزويج لورا من صديق لابنها توم، ما يصل إلى الخيبة والصدمة عند النهاية.
هذه المسرحية حين نشرت ومثلت في 1945 أضفت على تنيسي ويليامز شهرة سوف تتضاعف حجماً بعد ذلك حين ستظهر مسرحياته التالية تباعاً من «عربة اسمها الرغـبة» (1947) المتحدثة عن استلابات بلانش وجنونها في منزل اختها وصهرها البولوني الأصل، في نيو أورليانز. في هذه المسرحية (التي سرعان ما تحولت إلى فيلم لا يُنسى لعب فيه مارلون براندو دور الصهر القاسي)، عدّل تنيسي ويليامز الوضع حيث كشف عن تعاطفه التام مع شخصياته: «صحيح أن المصير مظلم، لكني أنا نفسي، أي الكاتب، لست بعيداً عن هذا المصير ولا أنظر إليه بأية موضوعية محايدة، بل أنا جزء من الشرط الانساني. ولئن كنت أعبّر عنه بهذه السوداوية، فما هذا إلا لأنه الواقع. فلنفضح هذا الواقع، فلربما كان في ذلك الترياق».
في انتظار القطة
بعد مأساة بلانش دوبوا، واصل ويليامز كتابة مسرحياته المريرة بأسلوبه القوطي المقابري وبشخصياته المنتزعة من دهاليز الحياة الأميركية فكانت «وشم الوردة» (1950) ثم «كامينو ريال» (1953) ممراً للوصول إلى مسرحيته الكبيرة التالية «قطة على سطح من الصفيح الساخن» (1955) التي توغل فيها داخل علاقات وأسرار أسرة اميركية موسرة ليكشف في أسفل جبل الجليد الذي تمثله وضعيتها، علاقات مرضية وصراعات لا براء منها.
في 1958 نشر ويليامز «فجأة في الصيف الفائت» التي أتبعها في العام التالي بمسرحية «طائر الشباب الجميل»، وهاتان المسرحيتان لم تفلتا من براثن خيبة ويليامز ونظرته المريرة إلى الشرط الانساني، وإن كانت شخصياته فيها قد تبدت اكثر نضوجاً وفهماً لوضعيتها وبالتالي أكثر قدرة على مجابهة تلك الوضعية. هذه المجابهة ومعها شيء من الحنين إلى الصبا المفقود عبر عنهما في «الحيوانات الزجاجية» في الماضي. ولاحقا، في «طائر الشباب الجميل»، ليعود اليهما في مسرحية تالية هي «ربيع السيدة ستون» (1950) التي تتحدث عن علاقة بين ممثلة مكتهلة وشاب انتهازي. ولقد أتت هذه المسرحية يومها تتويجاً لعمل ويليامز الذي انصرف بعدها لكتابة الشعر والقصة القصيرة ومذكراته، مبتعداً عن المسرح اكثر وأكثر قبل أن يعود قويا في "ليلة الإيغوانا"، إلى درجة أنه أمضى السنوات الأخيرة من حياته غير راغب في كتابة أي شيء على الاطلاق كما يقول لنا في مذكراته.