نبيل وابن لعائلة من أرقى عائلات فرنسا، ومع هذا لم يعش حياته القصيرة ولم يحسّ بالراحة والهناء إلا بين الحثالة. حرمته الأقدار من أي تناسق أو جمال في وجهه أو جسده، ومع هذا كان واحدا من كبار الفنانين الباريسيين الذي عشقوا الجمال وصوّروه مستنبطا إياه حتى بين أكوام القمامة. هو الكونت هنري دي تولوز – لوتريك الذي عرفته أزقة بيغال وكاباريهات مونمارتر، بأكثر كثيرا مما عرفته قصور أفراد أسرته. لكنه دائما ما كان يصرّ أن ليس في الحياة التي اختار عيشها أية رغبة في الثأر لما هو فيه أو لتشويه سمعة عائلته والحط من شأنها. كل ما في الأمر أن "الأقدار اختارت لي أن أكون على هذه الشاكلة، ولسوف أطيعها وأثبت انها لن تهزمني بأي حال من الأحوال". وعلى ذلك النحو عرفته ليالي باريس في عصرها الذهبي نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وهو لئن مات باكرا ميتة تليق بالحياة التي عاشها ويموت بها عادة أمثاله من الذين لم تنعم عليهم الطبيعة بأي رونق أو جمال، ترك وراءه عددا كبيرا من أعمال فنية بين لوحات ومحفورات وملصقات عرفت كيف تخلد الحياة الباريسية، ولكن كيف تخلده هو نفسه قبل ذلك.
صراع بين عالمين متجاورين
والحال أن في إمكاننا أن نربط انطلاقة تولوز لوتريك في الحياة الباريسية بافتتاح ملهى "المولان روج" كمركز لتلك الحياة في مونمارتر، ولقد تزامن ذلك الإفتتاح مع بدء عودة عدد من الرسامين الإنطباعيين إلى المشاهد الداخلية بعد أن لبثوا عقودا من السنين يصورون في الهواء الطلق ساعين وراء الألوان والهواء في كل مكان. ومن هنا راحوا يكتشفون ملاهي تلك المنطقة الباريسية التي تصخب بالحياة في الليل وتمتلئ بالكاباريهات وبيوت الهوى والمسارح والسواح.... وكذلك بالفاتنات اللواتي راحت كل واحدة منهن تتحول إلى حكاية ثم إلى لوحة. وكان من الواضح أن ذلك النوع من الحياة يتلاءم تماما مع ذلك القزم المشوه الذي لم يكن ليروقه الرسم في الهواء الطلق، بل لا يتناسب حتى مع أوضاعه الجسمانية. ومن هنا ما إن مرت فترة يسيرة من الوقت حتى صار من سادة تلك الأمكنة، ولا سيما من سادة "المولان روج" نفسه. وحدث ذلك تحديدا في العام 1889 التالي مباشرة لعام افتتاح الملهى، كقاعة للرقص أول الأمر، ولقد كان من الواضح أن "المولان روج" وجد لكي يحل محل "المولان دي لا غاليت" الذي كان مركز تجمع وتحرك الإنطباعيين وقد شاخ بشيخوختهم. وبسرعة عرف الملهى الجديد كيف يستقطب نجمات جاره القديم باحتذابه أجملهن. وفي هذا السياق كان من الطبيعي لتولوز لوتريك أن يلحق بركب الحسناوات اللواتي وإن كن ينفرن من خلقته وجسده، كنّ يرتحن لصحبته وضروب غرامياته الساذجة. ولكن أكثر من ذلك للوعود التي راح يسبغها عليهن بجعلهن نجمات لوحات مقبلة له.
ولسوف يكون الأمر كذلك بعد حين. ولكن كان على الرسام أن يستوعب المكان نفسه أول الأمر، كما كان عليه أن يخدم المكان والفاتنات معا برسمه عددا كبيرا من الملصقات التي ستكون من اختصاصه. ولعل في مقدورنا أن نشير هنا إلى أن مقارنة بين لوحتين رسمهما لوتريك في فترتين متقاربتين من العام نفسه تظهره لنا وكأنه بودّع الملهى القديم ويستقبل الجديد مناخا وتلوينا بل تركيبا للوحة لنفهم حيثيات تلك النقلة التي قام بها في حياته. فهو في اللوحة المبكرة وعنوانها "في حفل مولان دي لا غاليت" يصور من زاوية غامضة بعض الشيء وبألوان غامقة وباهتة مشهدا صحيح أنه يوحي بالإحتفال والمرح لكن مناخه العام يعبق بقدر كبير من الكآبة. وفي المقابل، في اللوحة الأكثر جدّة والتي هي واحدة من أولى اللوحات التي رسمها في الملهى الحديد، وسيقول نقاد كثر أنها تكاد تكون واحدة من أجمل لوحاته على أي حال، نرانا أمام لوحة مشغولة بعناية فائقة، بل لوحة يبدو معها الرسام وكأنه يضعنا مباشرة أمام عمق المشهد حيث يقود نظرنا بالتدريج من المقدمة جاعلا منا متطابقين في النظرة مع تلك السيدة التي لا تقف هنا إلا لكي توجّه بصرنا في اتجاه ما يبدو أنها، هي، مستمتعة بما تشاهده وها هي تدعونا إلى الإستمتاع معها وربما في انتظار أن تندمج هي في الرقصة التي تؤدى بحماس وانطلاق في نقطة المركز من المشهد. والحال أن لوتريك يتمكن من الإيحاء بهذا كله فقط عبر ذلك الإقتراح البصري الذي يتحرك ويحركنا من مقدمة اللوحة إلى عمقها. بيد أن ما يجب التنبه إليه هنا هو أن هذه اللوحة تكاد تكون بورتريه في الوقت نفسه بالمعنى العلمي للكلمة حيث من المعروف أن البورتريه لوحة تصوّر أشخاصا معروفين. ونحن لو تأملنا هنا في بعض الشخصيات التي نراها سنجد أن في إمكاننا التعرّف على بعضها وعلى الأقل من خلال لوحات مقبلة للرسام نفسه. مثلا هناك لاغول وفالنتين المعضّم وهما الشابة والرجل النحيل – ومن هنا لقب بالمعضّم – الراقصان في الوسط اللذين تشخص اليهما عينا الفتاة التي تشغل مقدمة اللوحة. فهذان من جراء رسم لوتريك لهما في عدد كبير من لوحاته المقبلة سيصبحان من علامات "المولان روج" كما من علامات الحياة الباريسية الليلية. وربما كانت إطلالتهما هنا واحدة من أولى إطلالاتهما في فن أي رسام.
ألوان الحياة الجديدة
والحال أن ليس في وسعنا أن نختم هذا الكلام عن هذه اللوحة المبكرة لتولوز لوتريك دون التوقف عند الإنقلابة اللونية التي تمثلها. فبهذه اللوحة أوصل الرسام فنه إلى ذلك التلوين التعددي الذي راح يحل لديه مكان التلوين الأحادي. ونعرف أن الإمعان في التلوين سيكون واحدة من السمات الرئيسة لفن لوتريك. ومن هنا يبدو أن هذه النقلة لم تكن جغرافية وحسب بل كانت نفسية ومزاجية في الوقت نفسه، أعادت خلق هذا الفنان من جديد وأسبغت عليه نوعا غامضا على أية حال، من الرغبة في الإحتفال بالحياة مهما كان الثمن.
ومهما يكن من أمر، فإن هنري دي تولوز لوتريك، لم يعش طويلا بعد ذلك. عاش فقط حتى بلغ السابعة والثلاثين حيث انتهى الأمر بآلامه وتشوهاته أن انتصرت على صموده وحبه للحياة. غير أنه عرف كيف يقول في واحد من آخر أيامه، وقد أدرك ان نهايته قد باتت قريبة وأن الأطباء نفضوا أيديهم منه رغم كل الجهود التي بذلتها عائلته في سبيله: لقد عشت وفرحت وأحببت خلال سنوات قليلة ألف مرة أكثر من أولئك الذين يعيشون مئة عام يظلون خلالها كالميتين. والحقيقة أننا إذا تأملنا نتاج تولوز لوتريك الفني وربطناه بتلك الحياة الصاخبة التي عاشها، سندرك كم كان مصيبا في قوله هذا.
ولد هنري دي تولوز لوتريك العام 1864 في مدينة ألبي الفرنسية إبنا بكرا للكونت ألفونس وابنة عم هذا الأخير الكونتيسة آديل. ويبدو أن هذه القرابة هي ما جعل هنري يولد مشوها لينمو هذا التشوه لديه مع تقدمه في السن كما أن أخا له جاء من بعده ما لبث أن فارق الحياة. وكأن ذلك لم يكن كافيا حيث حدث لاحقا لهنري وهو في الرابعة عشر أن سقط سقطة حطمت عظامه وأقعدته ردحا لتتلوها بعد خمس سنوات سقطة تالية أكملت على ما تبقى من وركه... غير أن ذلك لم يمنعه من أن يهوى القراءة والفن لينصرف في العام 1885 للعيش في مونمارتر مشتغلا على تطوير مواهب فنية راحت تبرز لديه حتى كان غوصه النهائي في الحياة الفنية حتى أيامه الأخيرة.