مَن منّا قرأ أو حتى سمع بشاعر بريطاني يدعى توماس تراهرن (1637 ــ 1674)؟ لن نعجب إن أجاب معظمنا بالنفي، بما أن تراهرن اختار العيش بعيداً من العالم الأدبي، في حضن الطبيعة. لكن ماذا لو أنه أحد أهم شعراء إنكلترا الميتافيزيقيين، مع جون دون وجورج هربرت وهنري فوغان وأندرو مارفين، وربما أفضلهم؟ للتأكّد من ذلك، تكفي قراءة الكتاب الذي أصدرته له حديثاً دار "أرفويان" الباريسية ويتضمن "التأمّلات المختارة" التي جمعها الشاعر بنفسه ونقلتها إلى الفرنسية المترجمة القديرة ماغالي جوليان.
طوال حياته، لم ينشر تراهرن أيّاً من مخطوطاته الشعرية التي عُثِر على معظمها لدى تاجر كتب عام 1897 وصدرت في مجلدين: "الأعمال الشعرية" (1903) و"قصائد البهجة" (1904)، تبعتها "مئويّات تأمّلية" عام 1908. ويجب انتظار عام 1996 لاكتشاف قصيدته الملحمية الطويلة (1800 سطر) "القانون الاحتفالي"، والعام اللاحق لظهور "تأمّلات مختارة" التي كتب الشاعر نصوصها بين عاميّ 1664 و1667.
في جميع هذه الأعمال، نستشفّ تصوّفاً متعوياً، وفي الوقت نفسه، حلوليّة مشعّة، ومناخاً من البراءة المستعادة يغمر فيه نور الفردوس العالمَ الحالي ونفْسَ الشاعر. فردوسٌ غير منتظر أو بعيد، بل موجود هنا والآن على الأرض، يحتفي تراهرن في أرجائه بحضور الكون بكامله في أقل ذرّة منه، تماماً مثل المفكّر الألماني نيكولاوس فون كوس، لكن ضمن مثاليةٍ سحرية تستحضر كتابات نوفاليس، وبراءةٍ مماثلة لتلك التي أنشدها ويليام بليك، وتمجيدٍ للطفولة كما فعل لاحقاً ويليام وردزورث.
أما في "التأمّلات المختارة"، فما يفاجئنا ويفتننا، إلى جانب روعة أسلوبها وشفافيّته، هو سطوة التجربة التي ألهمتها وانبثقت منها. تأمّلات تشهد على تجرّدٍ كامل وبصيرة نادرة: "خلال سنوات العزلة الأكثر حميميّة التي عشتها، كان الأمر كما لو أن لا أحد غيري في العالم. جميع السماوات كانت لي، لي وحدي. لم يكن عليّ أن أفعل أي شيء سوى السير مع البارئ، كما لو أن لا وجود لأحد غيرنا. حين عدت للعيش بين الناس، اكتشفتُ أنهم كنوزٌ زائدة. فبقيتُ وحدي، أتذوّق كل شيء".
حيوية العالم
في نصوص هذه المجموعة، يقدّم تراهرن لنا رؤية حيوية للعالم، حديثة بشكلٍ مدهش، رؤية كونية ابتهاجيّة تستحضر غالباً فلسفات الهند الروحانيّة، لكن بعيداً من أيّ تنسُّكٍ مبني على شعور بالإثم: "نحن الذين ذوو طبيعة تعاقبيّة، لاأبدية. خلال نزهةٍ، نتجاوز الأشجار، الثابتة في طبيعتها، مثلها مثل اللحظات، فيتملّكنا الانطباع بأن الزمن يتقدّم، يفرّ (...). لكن الزمن لا يتحرّك. ويا للحرّية اللامتناهية في مملكته!".
تراهرن متأملٌ مدهش، وتأمّله يفضي دائماً إلى العجب والامتنان لكونه شاهداً على هذه الحياة ولفرصة المشاركة فيها. ولا سذاجة إطلاقاً في وضعيته هذه، فبنظرةٍ واحدة، يعرف كيف يرى في كل شيء الفارغ والممتلئ اللذين يتكوّن منهما: "بقدر ما هو سهل رؤية الأشياء الحاضرة في واجهةٍ، من السهل رؤية الواجهة فارغة: تسهل رؤية كل شيء متضمَّن في كل نقطة من الفضاء بقدر ما تسهل رؤية هذه النقطة فارغةً، في ذاتها".
خلال حياته القصيرة (37 سنة)، اختار تراهرن العيش قدر المستطاع معزولاً عن كل شيء، في الريف الإنجليزي، مكرّساً وقته لتدوين تأمّلاته ونشواته بهدف إدراكها بحدّةٍ أكبر. وفي هذه العزلة، تجوّل ضمن بصيرة مدهشة، مدركاً اللامنتاهي في كل شيء والطعم اللذيذ لكل لحظة: "أن نتذوّق كلياً ذاتنا هو تعبير يشتمل لغزاً لا حدود له، يتعذّر على أي كائن سبره أو فهمه كلياً من دون استكشاف الأبدية بعلوّها وعمقها وهوّاتها".
مثل إميلي ديكنسون التي تجمعه بها نقاط شبه كثيرة، اختار تراهرن عدم نشر أيٍّ من نصوصه، مفضّلاً الاستمتاع بكينونته فحسب: "حين كنت أجلس بين الأشجار الصامتة، كان كل وقتي لي، وقررتُ تمضيته كلياً، ومهما كانت كلفة ذلك، في البحث عن السعادة وإشباع ذلك العطش الحارق الذي أشعلته الطبيعة فيّ منذ صباي". وكإنسانٍ سعيد يليق في غبطته بالشاعر الروماني فرجيل، كان يكتفي بالاستراحة "في ظلّ أشجار الزان" للتأمّل. سعيدٌ بما كان يراه ويتجلّى له، وأيضاً لتذوّقه العالم بجميع حواسه المتأجّجة، بابتهاجٍ ونقاءٍ فردوسيين: "يمكن الملائكة أن تتعبّد، أن تحبّ وتحمد. لكن من دون وساطة الإنسان، لا يمكنها تذوّق هذا العالم الرائع، لأن من دون جسدٍ وشم ولمسٍ ورؤيةٍ، من دون عينين وأذنين وحاجة إلى الهواء، إلى الأكل والشرب، كل شيء زائد وبلا جدوى".
وفعلاً، فقط الإنسان، بالنسبة إلى تراهرن، قادرٌ على تذوّق الأشياء، وفي كل شيء يتذوّق اللامتناهي: "الكائن القادر على تذوّق الغبطة اللامتناهية يملك فهماً للأبدية لا حدود له، ملكاتٍ واضحةً ومختلفةً لسبر أحشاء كل مركّز. غير أن الله واحدٌ في الكون".
يبقى أن نشير إلى أن جميع نصوص هذا الشاعر تستحق قراءة متأنّية، لكن أفضلها يكمن في مجموعته "مئويّات تأملية" التي وضعها في السنوات الأخيرة من حياته وتتألف من أربع مئويات (centuries)، تتضمّن كل واحدة مئة نصّ، ومن مئوية خامسة غير منجَزة تتضمّن عشرة نصوص. وفي هذه الرائعة الشعرية، أكثر من أن عملٍ سابق له، سعى تراهرن قبل أي شيء خلف البساطة المنيرة في القول، مستعيناً بكتابةٍ شفّافة وآنيّة للاقتراب من "الحقيقة العارية". كتابة تحاكي في ومضات "أفوريزماتها" أو شذراتها، أقوال الشاعر والمتصوّف الألماني أنجيلوس سيلسيوس، وفي الثقة الهادئة لتوكيداتها كتابات المتصوِّف البلجيكي يان فان ريبروك، وفي عمق التجربة التي تقف خلفها وأسلوبها الصوري نصوص المعلم إيكار.
باختصار، "أن نقرأ تراهرن، وفقاً لناشره الفرنسي، هو أن نعثر داخلنا على الشرق الضائع، وأن نفرح لأن، في القرب من هنا، في عمق الريف الإنجليزي، عاش إنسانٌ يقِظ ومتحرِّر من العبودية والجهل، شاعرٌ لا نعجب من وقوعه كلياً في طيّ النسيان، بما أنه فهم باكراً كلفة الشهرة" وتجنّبها. ولا شك في أن فراره طوال حياته من الأضواء و"القشور" لصالح ما هو جوهري ومنير في الوجود هو الذي يفسّر قيمة تأمّلاته، وأيضاً احتفال الكنيستين الأنغليكانية والأسقفية به سنوياً كقدّيس.