في ذكرى ميلاده الـ147، يحضر شاعر النيل حافظ إبراهيم (من مواليد 24 فبراير عام 1872) بنسماته الشعرية الوطنية التي تحتفظ بها الذاكرة الجمعية المصرية، نسمات معبّقة بروائح النيل الخالد الذي شهد صرخة حياته الأولى، وترددت صرخاته الأخرى من أسيوط إلى القاهرة حتى مماته.
اختار الارتحال من أسيوط مرورا بطنطا وحلوان والقاهرة، إلى أن استقر به المقام عند صاحبة المقام السيدة نفيسة، ليظفر بجوارها في الحياة الأخرى، يشهد بذلك ضريحه البسيط شبه المهمل "مدفن شاعر النيل المرحوم محمد حافظ إبراهيم بك، 21 يوليو (تموز) 1932".
شاعر المدرسة ورفيق المناسبات الوطنية
حافظ إبراهيم، المتوفى عن عمر 60 عاما، عُرف بطريقته الأخّاذة وهو يلقي شعره متفوقا على كثير من شعراء جيله في تلك النقطة بمن فيهم أحمد شوقي نفسه، هو الشاعر الأكثر حضورا في ذاكرة المصريين على مدار سنوات، أبيات قصائده رافقت طلاب مصر في كتب القراءة والمطالعة والإذاعة المدرسية، فلا أحد ينسى "ولا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخلاق... الأم مدرسة إذا أعددتها أعدت شعبا طيب الأعراق"، في مراحل أخرى نردد ما غنّته أم كلثوم من أشعاره وتلحين رياض السنباطي عام 1951:
وقــف الخلــق ينظـرون جميعا كيف ابني قواعد المجد وحدي
وبناة الأهرام في سالف الدهر كفوني الكلام عند التحدي
أنا تاج العلاء في مفرق الشرق ودراتـه فرائـد عقــدي
إن مجــدي في الأوليات عــريق من له مثل أولياتي ومجدي
أنا إن قدَّر الإله مماتي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
حافظ إبراهيم "شاعر النيل" ليس من فراغ، فقد "وضعته والدته في سفينة متوقفة على صفاف نيل محافظة أسيوط في مدينة ديروط جنوب مصر"، وقد نجح في أن يرسم النيل بحس يلائم شعور رجل الشارع المصري، ومن ضمن ما قاله "نظرت للنيل فاهتزت جوانبه.. يجري على قدر في كل منحدر.. كأنه ورجال الري تحرسه.. قد كان يشكو ضياعا مذ جرى طلِقا.. وفاض بالخير في سهل ووديان"، كان يصف الفيضان الكبير للنهر وكيف كان يؤثر على حياة الناس.
عاشق النيل والوحدة أيضا!
لُقّب بـ"شاعر النيل" لأنه حصل على وسام النيل، كما لُقّب أيضا بـ"شاعر الشعب"، حيث كان على رصانته وقوة لغته قريباً جدا فيما يكتب من عموم الجمهور، ولم يتخذ من التعبيرات المعقدة أو الصور المبالغ فيها طريقا لما ينظم، فقال عنه الشاعر اللبناني خليل مطران "حافظ إبراهيم أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتي منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه".
كل هذا التدفق والموهبة والحضور في مسيرة الشاعر المصري الراحل حافظ إبراهيم، صاحبه وحدة رافقته حتى النهاية، فبعد أعوام قليلة من ولادته فارق أبوه الحياة، فغادر مدينة ديروط، وذهب مع والدته إلى طنطا للعيش مع خاله الذي كان بدوره موظفا بسيطا، ولكن شعُر حافظ إبراهيم بالضيق من كونه ضيفا ثقيلا على خاله المهندس محمد نيازي فتركه وشق طريقه بعيدا عنه، وبحسب المتوارث عنه فقد كتب له بيتا شعريا يشرح فيه بإيجاز وخفة ظل سبب مغادرته " ثقلت عليك مؤونتي، إني أراها واهية، فافرح فإنّي ذاهب، متوجه في داهية".
الوحدة رافقت الشاعر المهم حتى بعد أن حاول أن يتغلب عليها بالزواج، حيث عقد قرانه على إحدى قريباته، ولكن الزيجة لم تدم سوى أربعة أشهر ولم يكرر الأمر ثانية، وهكذا عاد لوحدته من جديد، وبحسب بعض الروايات فالشاعر الراحل كان يفضل عدم الاختلاط بالناس كثيرا، لدرجة أنه كان ينفرد بنفسه داخل قطار يوميا من القاهرة "حيث مقر عمله"، إلى حلوان "حيث يقيم"، بالرغم من براعته في التعبير عما يدور بمكنونات ووجدان الجماهير. البعض فسر الأمر على أنه بهذا التصرف أيضا كان يمارس هوايته في الإنفاق الذي كاد يصل إلى حد التبذير، حيث كان من أكرم أدباء جيله، ولا يعرف طريقا إلى التوفير أو اكتناز المال.
الضابط يتقاعد سريعا
حافظ إبراهيم كان شاعرا لامعا وضابطا وعمل بالمحاماة أيضا، حيث شق طريقه في الحياة بمكتب أحد المحامين، وكان على دراية باللغة الفرنسية مما سهل له الأمور واطلع على كتب كبار الأدباء، كما تخرج عام 1891 في المدرسة الحربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان ينظم الشعر وهو مستمر في عمله بوزارة الداخلية حتى أنه سافر مع البعثة المصرية إلى السودان، وقد طلب بنفسه أن يحال إلى التقاعد عام 1903، وأخيرا استقر عمله في وظيفة تليق باهتماماته بتعيينه عام 1911 مديرا للقسم الأدبي بدار الكتب والوثائق القومية.
وهي الفترة التي شهدت تصرفات غريبة وغير متوقعة منه، فرغم ما عرف عنه من نهم كبير للمطالعة وسرعته في حفظ ما يقرأ وقدراته الفائقة على التهام كل ما تقع عليه يداه من كتب في وقت قياسي، لكنه عزف عن الاطلاع خلال العشرين سنة الأخيرة من حياته، والبعض فسر الأمر بأنه كان قد أصيب بضعف في النظر فرغب في أن يقلل من القراءة كي لا تتدهور حالته، ولكن ظل الأمر محيرا لكثيرين من المقربين منه ممن يعرفون ولعه بعالم الكتب.
ما بين وزارة الداخلية والكتابة
تنقّل حافظ إبراهيم بين عمله بوزارة الداخلية والكتابة، وكان منفتحا أيضا على الترجمة والنقل عن النقد والاقتصاد من رصيد الكتاب الأجانب بسبب معرفته بالفرنسية، حيث ترجم رائعة فيكتور هوجو من الفرنسية إلى العربية "البؤساء"، وأيضا ترجم عن الفرنسية "في التربية الأولية"، وقدم مع خليل مطران "الموجز في علم الاقتصاد"، و"ليالي سطيح في النقد الاجتماعي"، ورغم ذلك يبدو إنتاجه من الشعر عبارة عن ديوان واحد فقط نشره في حياته هو "الديوان"، وبعض القصائد التي جمعت بعد رحيله وتولى نشرها في دمشق الأديب السوري السيد أحمد عبيد.
حافظ وشوقي.. ودٌ ومشاكسة
العقاد وخليل ومطران وطه حسين، بعض من عصر كامل من كبار أهل الكتابة والأدب كانوا في زمن حافظ إبراهيم، لكن الصاحب القريب والمفضل كان زميله ومنافسه أمير الشعراء أحمد شوقي، كانا صديقين مقربين جدا، رغم المقارنات الدائمة بينهما، ومما يقال في هذا الصدد إنهما كان يحبان مشاكسة بعضهما البعض، حيث قال حافظ ذات يوم ليستفز شوقي بيت شعر ساخر " يقولون إن الشوق نار ولوعة.. فما بال شوقي أصبح اليوم باردا"، فسريعا جاء الرد من شوقي بعد أبيات مثل السياط أنهاها بـ"أودعت إنسانا وكلبا وديعة.. فضيعها الإنسان والكلب حافظ"، فيما كان حافظ من أوائل وأشهر المبايعين لشوقي بلقب أمير الشعراء وهنا أنشد " أمير القوافي قد أتيت مبايعا وهذي وفود الشرقِ قد أقبلت معي"، الود بينهما كان حاضرا حتى أنه حينما توفي حافظ إبراهيم عام 1932 بمنزله إثر أزمة صحية طارئة، لم يبلّغ أحمد شوقي بالنبأ إلا بعد الواقعة بثلاثة أيام خوفا عليه من صدمة رحيل صديقه، وهنا أنشد شوقي بأسى "قد كنت أوثر أن تقول رثائي.. يا منصف الموتى من الأحياء"، حيث عرف عن حافظ إبراهيم تميزه في شعر الرثاء، واشتهر برثاء مجموعة من رجال الحركة الوطنية بمصر مثل: مصطفى كامل وسعد زغلول، وكانت أبياته يرددها الناس بفجيعة، واللافت أن شوقي قد فارق الحياة بعد ثلاثة أشهر تقريبا من غياب رفيق رحلة الشعر.