قبل هروب الرئيس هادي إلى عدن كانت السفارات العاملة في صنعاء قد أغلقت أبوابها وعلقت أعمالها اعتراضاً على سلسلة الإجراءات التعسفية التي اتخذتها جماعة "أنصار الله" وبخاصة اعتقال الرئيس ورئيس الحكومة والوزراء وعدد من قادة الأحزاب وأيضا القرار الذي سموه "الإعلان الدستوري"، إذ شكّل تأكيداً على عدم اعترافهم بالدستور القائم وكذا الإعلان الصريح عن السيطرة على مؤسسات الدولة تحت غطائه، وأثار قلقاً شديداً عند المتشككين في نوايا الجماعة وخصومها المذهبيين والسياسيين.
كان مثيراً وصاعقاً الإعلان عن وصول الرئيس هادي إلى عدن، فقد أحدث ارتباكاً عند خصومه الذين كانوا يتصورون ويرغبون في طي صفحته السياسية على قمة الدولة، وسيظل السؤال الذي يبحث عن جوابٍ مقنع هو كيفية تمكنه من الهروب في 20 فبراير (شباط) 2015، ومن أسهم في ذلك ورتّب عملية كسر الطوق الأمني الذي كان يحاصر منزله منذ 21 يناير (كانون الثاني)، وقد أكد لي أحد كبار القادة الأمنيين من الذين عملوا معه أنه كان عنده في مساء اليوم السابق في "مقيل القات" (ملتقى لمناقشة القضايا) من دون أن يشعر بوجود نيّة أو رغبة لدى الرئيس للهروب، خصوصاً أن حالته الصحية لم تكن تسمح له بالمجازفة وتحمل معاناة طرق كان الحوثيون يراقبونها، وأضاف أنه لحق بالرئيس صباح اليوم التالي، حين تأكد من وصول هادي إلى عدن.
لم يتمكن النواب من عقد اجتماع لاتخاذ قرار بقبول أو رفض الاستقالة، لأن مسلحي "أنصار الله" حاصروا مقر المجلس لمنع الانعقاد لشعور الجماعة بالقلق لعدم قدرتها على التحكم بالقرار، ولربما كان خروج الرئيس من صنعاء قد خفف العبء الكبير عنهم، إذ إنهم كانوا في الأصل يعتمدون على قوتهم المسلحة في فرض الأمر الواقع داخل العاصمة وخارجها، وهكذا توزعت الأسئلة المثارة حول هروبه وتعددت إجاباتها، فقيل إن شيخاً قبلياً تمكن من رشوة الحراسات القليلة التي كانت تحيط بالمنزل، وآخر يقول إن الرئيس تنكر في زي امرأة وخرج بهدوء لأن الحراسات الحوثية لم تكن تدقق في هويات النساء، وظل الحوثيون على موقفهم بعدم السماح بانعقاد جلسة لمجلس النواب تسمح بانتقال السلطة إلى هيئة رئاسة المجلس الذي يسيطر عليه صالح.
وكما ذكرتُ سابقاً، فإنني أتصور أن هروب ثم تراجع الرئيس هادي عن استقالته في خطاب مذاع لم يسببا انزعاجاً كبيراً لدى "أنصار الله"، لأنهم تصوروا أن تفاهماتهم مع علي عبد الله صالح كافية لضمان عدم خروجه من عدن، لأن أغلب القوات الموجودة هناك كان تحت إمرة قيادات أمنية شمالية تدين بالولاء لصالح، واعتقدت الجماعة أنه سيكون من الصعب إحداث تغيير جذري في المشهد السياسي القائم الذي فرضوه على الجميع وأنهم سيتمكنون من خلاله من تثبيت الأوضاع بما يسمح لهم بالسيطرة على كافة الرقعة الجغرافية اليمنية، وبرهنت الأحداث التي تلت وصول هادي إلى عدن على أن الشأن اليمني قد خرج من الحالة المحلية ليصبح قضية إقليمية تلاشت معها مساحة القرار اليمني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم يكن للرئيس الحماية الكافية لتأمينه داخل عدن وكان المعسكر الأهم فيها هو التابع لقوات الأمن الخاصة التي يقودها العميد عبد الحافظ السقاف، وبطبيعة الحال لم يكن هادي يثق فيه، وفي محاولة لتغيير ميزان القوة في المدينة وتأمين حمايته أصدر قراراً في 3 مارس (آذار) 2015 بإقالته وتعيين العميد ثابت جواس بدلاً عنه، لكن السقاف رفض تنفيذ أمر تسليم المعسكر وكان ذلك إيذاناً بمعركة داخل عدن أرسل لها الحوثيون المزيد من المقاتلين والعتاد في محاولة مستميتة لإحكام السيطرة على المدينة واللحاق بهادي للتأكد من بقائه داخلها، وانتشرت معلومات شبه مؤكدة عن استخدام مطار تعز لنقل العتاد والمزيد من القوات.
وكانت الأحداث في شهر مارس تتلاحق بصورة متسارعة وعاشت القيادات السياسية والاجتماعية خلاله حالة تيه متجددة واضطراب لم تكن تبدو معه أي مؤشرات في الأفق لتراجع الحوثيين أو لاستسلام الرئيس هادي، وارتفعت حدة التحذيرات وأشهرها الصادر من السعودية على لسان وزير خارجيتها الأمير الراحل سعود الفيصل، بأن تحركات الميليشيات العسكرية في اتجاه عدن ستكون تجاوزاً للخطوط الحمراء بعد وصول الرئيس إليها واتخاذها مقراً مؤقتا للحكومة.
تجاهل الحوثيون الإشارات التي توالت من عواصم خليجية وعالمية، ولم يدركوا أن تغيير موازين القوى في أي رقعة جغرافية داخل وخارج الإقليم من دون اتفاق وتوافق غير مسموح به ولن يمر من دون تدخل، وظل الرئيس هادي في عدن صامتاً، ولم يكن أحد يشعر بما يشير إلى أكثر من التنديدات الصادرة من كافة الاتجاهات ودعوات مجلس الأمن بضرورة السماح بعودة الرئيس إلى العاصمة صنعاء وتسليم المؤسسات التي استولت عليها جماعة "أنصار الله"، ولكن الهدف السياسي النهائي بالانفراد بالحكم بالأسلوب الذي كانت تنشده والعناد المقرون بقلة التجربة السياسية وعدم فهم طبيعة العلاقات الدولية والإقليمية، كانت كلها تدفع نحو تأزيم للحالة اليمنية بصورة غير مسبوقة وصارت عواقبها كارثية فيما بعد.
استُنفرَ الإقليم وعواصم الدول الكبرى لمتابعة تحركات الميليشيات الحوثية، وحاول الجميع معرفة مدى عمق التفاهمات بين "أنصار الله" والرئيس السابق صالح، وكانت الشكوك تتصاعد حول دوره في دفعهم نحو الجنوب ومقدار الدعم الذي يمكن أن يقدمه لهم عبر من تبقى من قيادات عسكرية ومحلية في المناطق التي أرسلوا مسلحيهم إليها، ومرة أخرى لم يضع "أنصار الله" في حساباتهم قلق الرياض ومخاوفها من طبيعة علاقاتهم مع إيران.
وزادت المخاوف الإقليمية مع تصاعد لغة التصريحات التي كانت وسائل الإعلام الإيرانية تطلقها ثم تكررها تلك المحسوبة عليها في المنطقة، بأن صنعاء صارت العاصمة الرابعة التي تسقط في يد حلفائها بعد بيروت ودمشق وبغداد.
وبغض النظر عن جدية تلك التصريحات من عدمها، فإن وسائل الإعلام التابعة لـ"أنصار الله" لم تحاول طمأنة الرياض، بل على العكس كانت لهجة العداء والاستعداء مرتفعة والتطرف بالحديث عن استعادة القرار اليمني والسيادة ومنع التدخلات الخارجية في القرار اليمني، وهما مبدآن لا يختلف حولهما أي إنسان محب لبلاده، لكنهما يتطلبان أيضاً الحصافة في الطرح وعدم استفزاز الجيران والعمل على تهدئة مخاوفهم، وليس استخدامهما لأهداف تسبب الكوارث للبلاد.
وبعد فشل محاولة عبد الحافظ السقاف فرض أمر واقع في عدن، انطلقت مقاتلات يمنية في 19 مارس 2015 لتقصف مقر الرئيس هادي في "معاشيق" وصارت حياته في خطر أكبر من الفترة التي كان محتجزاً فيها بصنعاء، ومن غير المعروف حتى الآن الجهة التي أعطت الأمر للمقاتلات بالهجوم، ولماذا أرادوا التخلص منه في عدن في حين كان بين أيديهم في صنعاء.
هكذا بقي هادي في عدن مع عدد قليل من كبار المسؤولين وأفراد أسرته والمقربين.