قد يكون من الصعوبة بمكان فهم السبب الذي جعل القصة المتوسطة الطول "عابر الجدران" تتحول مرات عدة إلى أفلام سينمائية في فترات متنوعة من تاريخ السينما الفرنسية، وإلى أفلام تلفزيونية بعد ذلك، ثم ذات مرة إلى مسرحية غنائية صاخبة تدافع الفرنسيون لحضورها بشكل مدهش. فهذه القصة التي كتبها مارسيل إيميه عام 1940 وأعاد كتابتها ونشرها في العام التالي، وفي كل مرة ضمن إطار مجموعة مختلفة وباسم مختلف، لكنها استقرت لاحقاً رأساً لمجموعة تحمل اسمها، هذه القصة إذا تحمل من الترميز ما يغوص في الغرائبية لكنها لا تبدو استثنائية إلا إذا ربطناها بالزمن الذي كُتبت ونشرت فيه: عام الهزيمة الفرنسية أمام الهجوم الألماني. واحتلال القوات النازية ليس فقط معظم الأراضي الفرنسية ولكن أيضاً عقول قطاعات عريضة من الشعب الفرنسي. فمثل هذا الربط وحده يعطي القصة قوتها.
إلى الجدار تعود
تدور الحكاية حول موظف في وزارة التعليم يكتشف يوماً أنه صاحب موهبة مذهلة تقوم في قدرته على اجتياز الجدران بكل بساطة وكأنها غير موجودة. وهو بفضل موهبته تلك يدخل ويخرج على راحته من وإلى البنوك والبيوت ومحلات المجوهرات من دون أن يتمكن أحد من معرفة ذلك. وهو إذ يمعن أكثر وأكثر في ممارسته هذه يكشف نفسه يوماً لمجرد أن يدخل السجن ليثبت أن في إمكانه الخروج من الزنزانة كما يشاء. وهناك خلال إقامته في سجن "الصحة" نراه يتوجه أول الأمر إلى مكتبة آمر السجن بشكل خفي ومضحك، ويستعير ما يشاء من الكتب من دون أن يردعه أحد، ثم بعد ذلك نراه يتوجه إلى حيثما يشاء من مطاعم ليتناول وجباته على ذوقه، لكنه في النهاية يفر من السجن نهائياً بطريقته الأثيرة، وقد قرر أن يهرب إلى مصر حيث يمكنه أن يعيش آمنًا مطمئناً. غير أن التقاءه بامرأة يقع في هواها يردّه عن تلك الغاية، ويقيم مع المرأة علاقة ستكون القاضية عليه وإن بشكل ما كان في مقدورنا تخيّله: فهو ذات ليلة فيما كان يغادر شقتها عبر واحد من جدران بيتها كما اعتاد أن يفعل، يحدث له أن يعلق داخل الجدار الذي كان يجتازه، لقد فقد في تلك اللحظة بالذات تلك الموهبة الخارقة التي كانت تميّزه، ليضحي نزيل ذلك الجدار العاصي عليه إلى أبد الآبدين. ولما لم يكن بإمكانه حلّ تلك المعضلة القاتلة يمضي بقية زمنه داخل الحائط لا يخرجه منه أحد ولا يعزيه سوى عزف على القيثارة يقوم به رسام جار.
هذه هي الحكاية باختصار، الحكاية التي أثارت شغف القراء الفرنسيين منذ ظهرت للمرة الأولى. وعلى الرغم من أن مارسيل إيميه كان واحداً من الكتّاب المؤمنين بمبدأ الأدب للأدب، لم يتوقف النقاد والباحثون عن تأويل قصته تأويلات سياسية وفكرية، مع أن الرجل نفسه صرّح مراراً وتكراراً بأنه لم يكتبها إلا لغايتين لا ثالث لهما: لكي تكون قطعة من الأدب الترفيهي الخالص من جهة، ولكي يمجّد من خلالها من جهة أخرى، منطقة مونمارتر التي كان يعيش فيها وتدور معظم الأحداث في أزقتها وشققها وساحاتها. غير أن النقاد واصلوا التأويل وصولاً إلى جعلها قصة تحاول أن "تكون جواباً على الاحتلال الألماني لباريس وغيرها من المناطق الفرنسية"(!)
غرائبية غريبة في فرنسا
في المقابل، لعل التفسير الممكن لأهمية هذه القصة والشغف الفرنسي غير المتوقع بها، يرتبط بالصنف الأدبي الغرائبي الذي تنتمي إليه. فالمعروف أن الأدب الفرنسي قد اتسم عموماً منذ عقلانية القرن الثامن عشر، بنزعة واقعية صارمة جعلت من النادر له أن ينتج كتّاباً يخرجون حقاً إلى مضمار التخييل الكامل، أي ذلك التخييل الذي طبع، بشكل خاص، الآداب الإنجلو - ساكسونية والجرمانية. ولقد كانت، في هذا الواقع، على الدوام، مفارقة مدهشة، حيث أن المجتمعات التي اتسمت بالعقلانية البروتستانتية لم تكف عن إنتاج أدب تخييلي يتناقض مع السمات العامة للذهنية الاجتماعية، في الوقت الذي أنتجت فيه مجتمعات مطبوعة بالماورائيات الكاثوليكية كل أنواع الفكر والأدب العقلانيين.
من هنا كانوا قلة أولئك الكتاب والمفكرون الذين حققوا، وبخاصة في فرنسا، أعمالاً تخرج عن إطار العقلانية الصرفة. ولقد كان مارسيل إيميه واحداً منهم، هو الذي يكاد يكون منسياً بعض الشيء في فرنسا اليوم، لحساب زملاء له كان أكثرهم أقل إبداعاً منه، وأقل احتفالاً بالأدب كأدب. فإيميه، الذي رحل عن عالمنا عام 1967، كان من دعاة الأدب الصرف، واقفاً في هذا ضد التيارات التي سادت فرنسا خلال العقود الأخيرة من حياته، ومن هنا كان النقاد يقولون عنه أنه ينتمي بالأحرى إلى أزمان ماضية، ويشبهونه بسلفه الفرنسي الكبير لاروشفوكو من ناحية دمجه للأدب التخييلي بالبعد الأخلاقي الوعظي وإطلاقه على الإنسان نظرة حنون، إضافة إلى امتلاء أدبه بالغرائب والحنين إلى أزمان رومانسية عبرت.
ومع هذا من المهم أن نذكّر بأن إيميه الذي ولد في أقصى أقاصي الريف الفرنسي، عاش صباه وشبابه وجلّ أيامه في باريس، وشارك في صخب حياتها ونزاعات تياراتها الأدبية والفكرية قبيل الحرب العالمية الثانية وبعدها. ولئن كانت باريس قد كرمته على الدوام ولم تبخل في إطلاق الألقاب عليه، ومنها لقب "كاتب العصر"، فإنه هو لم يفته أن يقف على مسافة من العاصمة الثقافية، معلناً انتماءه إلى أزمان وأماكن أخرى، مكتفياً بمراقبة أخلاقيات شتى الطبقات مركزاً بصورة أساسية على أخلاقيات البورجوازية الصغيرة، التي اختار بعض أبنائها ليجعل منهم أبطال رواياته وقصصه، ولكن مع حرصه الدائم على ألا يجعل من أدبه أدب رسالة اجتماعية صرفة.
فمارسيل إيميه كان يؤمن بالكتابة وبمتعة القراءة، وكان يؤمن أيضاً بأن الأدب يجب أن يتوجه أساساً إلى أجيال لم تدنسها مثالب المجتمع بعد، ولم تنخرط بعد في أخلاقيات طبقاتها. ومن هنا ما يلاحظ من أنه كتب معظم أدبه للأجيال الشابة، أو أنه - على الأقل - جعل أدبه قادراً على الوصول إلى تلك الأجيال، لإيمانه بأن لغة الأدب وحساسيته يمكنهما أن يحققا ثورة جمالية واجتماعية تلعب في الذهنيات، من دون أن يدعي الأدب لنفسه دوراً أكبر من ذلك الدور. والذين يقرؤون أدب مارسيل إيميه لن يفوتهم أن يدركوا أنه نجح دائماً في هذا.
ولد إيميه عام 1902 في جوانيي، وأمضى طفولته وسط غابات الشرق الفرنسي، ما ترك لديه انبهاره بعالم الغرابة، وامتلاء عالمه بالأحلام الضبابية التي تبدو على الدوام وكأنها طالعة من قلب الغابات. غير أن انخراطه في حياة الطبيعة لم يمنعه من أن يملأ رواياته وقصصه القصيرة بشخصيات يكشف من خلالها عورات وأخلاقية البورجوازية الفرنسية الصغيرة، حيث كان في معظم الأحيان يستخدم عالم الخيال والتخييل العلمي (كما في "عابر الجدران" مثلاً) للتوقف، وإن بشيء من التفهم عند شخصيات تكشف ذهنيات مجتمع بأسره. وعلى هذا امتلأ أدبه دائماً بشخصيات عادية ممتثلة لا مخيلة لها ولا تطلعات روحية، لكنه عرف كيف يضع تلك الشخصيات في مواقف تكشفها بل تعريها أمام نفسها. وفي هذا الصدد يمكننا أن نذكر أعمالاً لإيميه لا تزال حية حتى اليوم وتخدم كمرايا لمجتمع ندر له أن يفهم نفسه حقاً: "أورانوس"، "عبور"، "طريق التلامذة"، و"عبور باريس". في كل هذه الأعمال وغيرها، عبّر مارسيل إيميه عن نظرة إلى العالم، وإلى مجتمعه الفرنسي اتسمت دائماً بالسوداوية العابثة، إنما من دون أن ينسى في أعمال أخرى (مثل "لافويفر" و"حكايات القط المعلق") أن يعود إلى عوالم الجن والسحر ليجعل من الحيوانات التي يرسمها ويرسم مغامراتها، تعبيراً طيباً وحنوناً عن الشرط الإنساني، الشرط الذي كان همه الأول والأخير على أي حال.