لم تكن خطة السلام الترمبية موضع إجماع في إسرائيل. ويبدو أنها أقرب إلى هدية مسمومة في عين الجيش الإسرائيلي من جهة، وفي أوساط اليمين المتطرف الإسرائيلي، من جهة ثانية. فالأول يلتزم الحذر، ويرى أن حماية المستوطنات المتناثرة والنائية في الضفة الغربية وغور الأردن يفوق طاقته ويستنفدها. بينما لا يطيق اليمين المتطرف الاعتراف بدولة فلسطينية، مهما كانت صغيرة الشأن والوزن والمساحة ولو كانت مقطعة الأوصال. فعلى سبيل المثل، رفض نفتالي بينيت، وزير الدفاع الإسرائيلي، "خطة ترمب". واقترح خصم نتانياهو البارز، قائد الأركان الإسرائيلي السابق بيني غانتز، تنظيم استفتاء على "الخطة كلها"، وهو يرمي إلى شق صفوف اليمين الإسرائيلي، فإما يقبل الخطة بقضها وقضيضها، ومن ضمنها الاعتراف بدولة فلسطينية، أو يرفضها.
مخاوف أمنية
وتخشى أجهزة الأمن الإسرائيلية والمؤسسة العسكرية انهيار السلطة الفلسطينية حين ضم المستوطنات واضطرارها تالياً إلى الانتشار في قلب المدن الفلسطينية على ما كان الأمر قبل اتفاقات أوسلو في 1993. ويترتب على ضم المستوطنات كذلك تراجع التعاون الأمني الفلسطيني مع إسرائيل واندلاع تظاهرات أمام أماكن انتشار القوات الإسرائيلية، من جهة، وتقويض التعاون مع الأردن بموجب معاهدة السلام في 1994 ومصر في 1979، من جهة أخرى.
وعلى الرغم من اعتراف البيت الأبيض بالسيادة الأميركية عليها، تعذر على بنيامين نتانياهو المسارعة إلى ضم مستوطنات الضفة الغربية، واضطرت حكومته إلى إرجاء الضم متذرعة بـ"خطوات تمهيدية معقدة". وليست هذه الخطوات سوى عثرات سياسية على ما لاحظ لوي(س) إيمبير في لوموند الفرنسية. وأعلن عراب خطة السلام الترمبية، صهر الرئيس الأميركي جاريد كوشنر، أنه يأمل في إرجاء تنفيذها إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية مطلع مارس (آذار) المقبل. ووراء الموقف الأميركي الداعي إلى التأني هو الرغبة في استمالة الحلفاء العرب.
ويرى مسؤولون أمنيون غربيون وإسرائيليون أن واشنطن تقترح إنشاء "بؤر فلسطينية على الحدود"، في وقت لا يريد الإسرائيليون ثلاثة قطاعات مثل غزة"، على الحدود مع مصر. ويُسائل مسؤولون عسكريون إسرائيلون "المنطق الأمني" في خطة واشنطن التي تغامر بطي حل الدولتين أو على أقل تقدير، بطي الفصل المستدام بين إسرائيل والفلسطينيين". وفي صحيفة لوموند الفرنسية، قال جلعاد شير، المفاوض الإسرائيلي السابق إثر اتفاقات أوسلو، "نحن أمام خيار إما الحفاظ على ديمقراطية يهودية وإما ضم المستوطنات الذي ينهي المشروع الصهيوني".
وعلى خلاف ما يحسِب مراقبون كثر، يرى المؤرخ الأميركي ناثان ثرول أن هذه الخطة ما هي إلا تتويج للسياسات الأميركية في العقود الماضية و"نتيجتها الطبيعية"، ولا تخرج عن سياسة الأمر الواقع السائدة. وفي مقالة رأي لقيت رواجاً على الشبكة العنكبوتية كان نشرتها صحيفة نيويورك تايمز الأميركية ذهب إلى أن اسرائيل قضمت في العقود الماضية الضفة الغربية، وزرعت في الأراضي المحتلة أكثر من 600 ألف مستوطن، ووفرت واشنطن دعماً دبلوماسياً لها في الأمم المتحدة (نقض مشاريع قرارات وقف الاستيطان)، وفي المحاكم الدولية وفي الهيئات الاستقصائية (ضغوط رمت إلى رفع الضغط عن إسرائيل)، وقدمت لها مساعدات سنوية قدرها بلايين الدولارات. ويلاحظ ثرول أن بعض المرشحين الديمقراطيين إلى السباق الرئاسي شجبوا ضم إسرائيل المستوطنات، ولكنهم لم يقترحوا ما من شأنه وقف الخطوة هذه.
أما مارتن إنديك، الباحث والسفير الأميركي السابق في إسرائيل، فيخالف ناثان ثرول، ويرى أن خطة السلام خروج على ما درجت عليها الدبلوماسية الأميركية في العقود السابقة. ويعيب عليها في مقابلة مع إذاعة بوسطن العامة، أولاً، أنها تبرم اتفاق سلام بين إسرائيل والولايات المتحدة، و"هذا أمر يسير" ولكنه يستبعد الفلسطينيين من الحل. وثانياً، تجعل (الخطة) إسرائيل في مصاف دولة أبرتايد في وقت لم تكن إلى يومنا هذا على هذه الحال، على خلاف رأي كثير من المعلقين العرب. فخريطة السلام الترمبية ترسي كياناً مثل بانتوستان حيث تحيط أراض إسرائيلية بكانتونات فلسطينية تفصل بينها مستوطنات وشبكة طرق وأنفاق. وهذه الشبكة قد توفر "مواصلات متصلة" للدولة الفلسطينية وليس "إقليماً متصلاً"، وهو ركن حيوي لكل دولة مستقلة. ويرجح إنديك ألا يبصر النور النفق الذي يصل بين الضفة الغربية وغزة.
والمآخذ على ما يسمى "صفقة القرن" لم تقتصر على مناوئيها بل شملت واحداً من أبرز راسميها و"مهندسيها، جايسون غرينبلات الذي غرد على تويتر معيباً عليها "أحاديتها" وتمثيلها مصدر "خطر على حلفاء الولايات المتحدة" وقطعها الحبل بالفلسطينيين.
ترحيب روسي مضمر
أما موسكو فهي تدرك أن خطة السلام الأميركية ترمي إلى اعتراف دولي بأراض محتلة قُضمت وضُمت في حملة عسكرية. ولذا، ترى أن الخطة هذه سابقة بارزة لإضفاء مشروعية على السيادة الروسية في القرم، الذي "ضمته" روسيا في 2014. وهذا ما خلص إليه المحلل الروسي، فلادمير فرولوف، في ذي موسكو تايمز نهاية الشهر الماضي. وهو يرجح أن مثل هذه المشروعية ستكون مدار مقايضة بين ترمب وماكرون من جهة وبوتين من جهة أخرى في الاجتماع المقبل للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. فخطة السلام هذه شأن نهج ترمب السياسي تمضي في تقويض النظام العالمي الذي أرسته بلاده بعد الحرب العالمية الثانية، ونجم عن التقويض هذا إفساح المجال أمام سعي قوى إقليمية ودولية (روسيا) إلى ملء الفراغ الأميركي في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا، وأفضى كذلك إلى حرب تجارية مع الصين.
مفاوضات مضادة
وختم إنديك مقالة له نشرت في فورين أفيرز بإسداء نصيحة للفلسطينيين. فرفضهم لخطة ترمب يُطلق يد نتنياهو في ضم المستوطنات. ويقترح على القيادة الفلسطينية الالتفاف على الخطة وإعلان استعدادها لمفاوضات مباشرة مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة المنبثقة من انتخابات مارس (آذار) المرتقبة، والاستناد إلى قرارات مجلس الأمن التي تؤيد حل الدولتين وتقايض الأرض بالسلام. ويقول إنديك أن في وسع الفلسطينيين الاستناد إلى مبادرة الجامعة العربية. فمثل هذه الخطوة قد ترص صفوف الدعم العربي الفاتر وتنفخ في دعم المجتمع الدولي لمساعيهم. ويخلص إلى أن عرضاً فلسطينياً "مضاداً"، مثلما يقال هجوم مضاد، يقضي بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل قد يحمل ترمب على التخلي عن خطته ومساندة مقاربة أكثر واقعية وتوازناً من أجل حل "نزاع القرن".
ولكن اقتراح إنديك يبدو للوهلة الأولى ضعيف الصلة بالواقع والتوازنات العسكرية والتضامن العربي والدولي. والاستخفاف الأميركي بمطالب الفلسطينيين بلغ مبلغ اقتراح دسكرة مقفرة شطر راجح منها عشوائيات عاصمةً للدولة الفلسطينية. ما حمل نيويورك تايمز على نشر مقالة عنوانها "العاصمة في خطة ترمب للشرق الأوسط تهزأ بالطموحات الفلسطينية".
ولكن ما أعلنته كيلي كرافت، السفيرة الأميركية إلى الأمم المتحدة، قبل أيام يبعث على بعض الأمل. وقد تكون نصيحة إنديك، وقد يجوز تلخيصها بـ "فاوض ثم خذ"، في محلها. فكرافت قالت إن خطة ترمب للسلام قابلة للتعديل أو التغيير معلنة "أنها بداية الحوار وليست نهايته". ورأت "جيروزاليم بوست" في كلامها هذا مقاربة "تصالحية" تمد الجسور مع محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية.