لا تعتبر رواية "القطار المصفّح" للكاتب النمساوي ستيفان تسفايغ واحدة من أعماله الشهيرة، هو الذي كان خلال القرن العشرين واحدا من أشهر الروائيين الأوروبيين وأكثرهم شعبية، غير أن هذه الرواية يمكن أن تُعتبر عملا كبيرا في مجال أساسيّ على الأقل: الكيفية التي يمكن بها تحوبل حدث تاريخي كبير وربما ملغّز أيضا، إلى رواية شيقة تلعب على أي حال دورا كبيرا في إعادة تقويم الحدث بغية إعادة تقييمه.
صحيح أن الحدث ههنا كان قد "انكشف" يوم كتب تسفايغ روايته، كما أن السجالات التي دارت من حوله لم تكن في انتظار الروائي لكي تندلع. بيد أن ما اتخذ في السجالات السياسية طابعا إيديولوجيا أبقى "الحقيقة" بعيدة عن متناول "العامة" ولا سيما في البلد الذي كان معنيا حقا به: الإتحاد السوفياتي؛ بات تحت مجهر الروائي حدثا شعبيا كبيرا ولا سيما منذ سمحت الرقابة السوفياتية بالكتاب بعد أن ظلّ ممنوعا حتى العام 1982. ومع هذا يمكن القول أن تسفايغ كان يُقرأ بوفرة في بلاد السوفيات التي أصدرت أعماله الكاملة في طبعات عديدة وبمئات ألوف النسخ. ولكن دائما، وحتى العام 1982، خالية من هذه القصة التي نحن في صددها. لماذا؟
قطار ألماني يعبر أوروبا
بكل بساطة لأنها تتحدث عن ذلك القطار المصفّح بالفولاذ والذي أعده الألمان عند نهايات الحرب العالمية الأولى كي ينقلوا فيه لينين الزعيم الروسي الشيوعي مع رفاقه من منفاهم السويسري إلى روسيا لكي يلعبوا دورهم الحاسم في الثورة الروسية التي كانت قد اندلعت قبل حين، وتحيطها من كل جانب أخطار كان كثر متأكدين من أن وصول لينين سوف يحسم أمرها. ولسوف تكون الأمور كذلك بالفعل.
الحقيقة أن هذا الدور الألماني في مساندة الثورة الروسية على تلك الشاكلة كان معروفا إلى حد كبير. ونعرف أن الكاتب الإشتراكي البريطاني ويلسون قد ذكره في كتابه "محطة فنلندا" – وهي تلك المحطة في بتروغراد التي وصل اليها القطار في ذلك الحين بالفعل معلنا المرحلة الأخيرة من مراحل انتصار الثورة البولشفية – بيد أن ما كان لدى ويلسون نوعا من السرد السياسي السجالي الذي يأخذ على لينين والبولشفيين تعاونهم ذاك مع الألمان، يصبح لدى ستيفن تسفايغ حكاية مسليّة قبل شيء آخر لا ملامة فيها ولا حتى محاولة على اللعب مع التاريخ. بل إن تسفايغ يتابع الرحلة القطارية عبر أوروبا متنقلا بين العربة الوحيدة المصفحة حقا من بين العربات الثلاث التي واصلت الرحلة من زيوريخ إلى عاصمة الشمال الروسي، والعربتين الأخريين. وفي هذا التجوال بين العربات في أوروبا الغارقة في الجليد والعابقة برائحة الحرب والوعود الثورية، عرف الكاتب كيف يخرج بشخصياته من جمود الفعل التاريخي وصرامته، إلى انسيابية الواقع. فالشخصيات هنا تعيش دراما حقيقية بالمعنى المسرحي لا الفجائعي للكلمة، سواء أتى بها الكاتب من التاريخ الحيّ أو ابتكرها لتلعب دورها البسيط في الحياة في الوقت نفسه الذي تلعب فيه دورها المعقد في التاريخ. وإلى هذا لا يفوت الكاتب أن يقرّ بأن اشتغاله على الرواية نسف قناعة قديمة لديه كانت تجعله يعتقد أن الإنجليز وربما الأميركيين هم الذين كانوا وراء وصول لينين إلى بتروغراد، فإذا بالحقيقة التاريخية تفيده أن ذلك إنما كان من فعل الألمان الذين كانوا يتوخون من ذلك أن يدفع النظام الروسي الجديد إلى الإنسحاب من الحرب ما يمكنهم إما من ربحها أو على الأقل من عدم الإنكسار فيها. صحيح أن الأحداث تبدلت على الضد من توقعاتهم، ولكن ذلك لا يغير من حقائق الأمور. ونعرف أن هذا الكشف هو ما جعل رواية تسفايغ تمنع من قبل الرقابة السوفياتية إذ أتت لتطلع القراء على ما حدث حقا. ولنعد هنا إلى تسفايغ نفسه، للمناسبة!
انتحار في البرازيل
فلم يكن من قبيل المصادفة لكاتب حسّاس ملهم وليبرالي من طينة تسفايغ هذا أن يجعل واحداً من آخر كتبه التي وضعها قبل انتحاره - مع زوجته الشابة - ذات يوم من عام 1942 في البرازيل، يحمل عنوان «عالم الأمس». ذلك أن تسفايغ إنما انتحر احتجاجاً على تعاسة «عالم اليوم» وضراوته الذي كان في ذلك الحين عالم الديكتاتورية الهتلرية والضحالة الفكرية وحماسة قطعان الرأي العام راكضة خلف جلاديها... من هنا، شكّل كتابه هذا ما يشبه الوصية: وصية احتجاج ضد الهبوط الفكري والسياسي والثقافي والاجتماعي الذي يستشري في عالم «اليوم» أي، بالنسبة إليه، في العالم الذي كان يحيط به، وسندرك لاحقاً أنه إنما كان يستعد لمبارحته طواعية وأن كتابه هذا لم يكن سوى الإشارة الأولية الغامضة إلى قرب المبارحة وتفسير أسبابها صحيح أن كتاب «عالم الأمس» قد لا يكون الأشهر بين كتب تسفايغ. فهذا الكاتب عُرف، قبله، ثم بعد رحيله بالكثير من الروايات العاطفية والميلودرامية التي لطالما نهلت منها السينما - بما فيها السينما العربية - اقتباساً ومحاكاة، مثل «24 ساعة من حياة امرأة»، و«السيدة المجهولة»، و«حذار من الشفقة»، و«اختلاط العواطف»، كذلك فإنه عرف، بأقل حدة بعض الشيء، بكتب السيرة التي وضعها لايرازموس وماري أنطوانيت وغيرهما، ثم بصورة إجمالية بالمؤلفات التاريخية التي كان يكتبها في لغة أدبية لا تنسى.
أما بالنسبة إلى الفرنسيين، فإن تسفايغ كان الكاتب الألماني الذي ترجم إلى لغة وطنه الأم أعمال الشاعرين فيرلين وبودلير. أما بالنسبة إلى أبناء جلدته من قراء اللغة الألمانية، فإنه عرف بكونه كان من أبرز المهتمين بفلسفة نيتشه وأولهم ومن كبار الضالعين في دراسة أعمال هذا الأخير وتحليلها بالإستناد إلى نظريات التحليل النفسي التي كان آمن بها باكراً وجعلها في أحيان كثيرة عماد رواياته ودراساته وسيره والثقافة خلال النصف الأول من القرن العشرين، أما بالنسبة إلى جمهرة عريضة من قرائه النابهين، فإن ستيفان تسفايغ هو صاحب تلك الوصية الفكرية - السياسية التي حملت اسم «عالم الأمس» والتي كتبت بعد عشر سنوات أمعن خلالها الديكتاتور النازي هتلر في نسف كل التراث الفكري والثقافي الحديث، وفي نسف منجزات الحضارة العالمية الإنسانية كلها بعد ذلك. وكان من بين ضحايا هتلر، هنا، ذلك العالم القديم - عالم الأمس - الذي كان ضياعه السبب المباشر لانتحار تسفايغ. فمع وجود أناس مثل هتلر، كان بدا واضحاً لتسفايغ أن «العالم القديم» الذي كان عالمه هو، لم يعد له وجود. ففي ذلك الحين كان هتلر ينتصر على كل الجبهات. فما كان من تسفايغ إلا أن آلى على نفسه ألا يتركه ينتصر على جبهة محو الذاكرة. من هنا، كان هذا النص الجميل والاستثنائي، النص الذي تحدّث فيه تسفايغ عن عالم البورجوازية المتنورة لينعى عالماً بأسره، عالماً سادته نزعة حداثة إنسانية سلمية، وكان أقطابَه أناس مبدعون أمميون لم يريدوا لغير العقل والتنوير أن يكون وطناً لهم. فلم يصابوا بذلك العمى الذي أصاب أولئك المثقفين الألمان الذين شاؤوا أن يغضّوا الطرف، ولو لزمن يسير، عن الخطر الذي كان يمثله أدولف هتلر، لأنهم ما كانوا ليصدقوا في شكل جدي أن رجلاً لم يستطع حتى أن يكمل دراسته الابتدائية، ولم يعش حياته إلا بفضل مصادر دخل ظلت على الدوام غامضة، يمكنه حقاً أن يصل إلى مكانة سبق أن شغلها أناس من طينة بسمارك وأمراء فون بولو. صحيح أن الأحداث عادت وفتحت العيون ولكن - وكما يحدث دائماً - بعد فوات الأوان. ولأن هذا كله أودى بتسفايغ إلى وهدة اليأس، وضع كتابه الجنائزي هذا، واختار أن يتوقف عن الهرب إلى الأمام: اختار أن يموت احتجاجاً على عالم ليبرالي مشع ينهار أمام غزو الهمجية.