بالتزامن مع استعداد النظام الإيراني لإعلان نجاحه في تنظيم انتخابات برلمانية منحته السيطرة والهيمنة على غالبية مقاعد النواب، يبدو أن النتيجة المرتقبة ستمهّد الطريق أمامه لتوسيع دائرة سيطرته على مراكز القرار والسلطات الدستورية، حيث ستجرى الانتخابات الرئاسية بعد عام ونصف العام، وفي حال استطاع النجاح في إيصال مرشحه إلى هذا المنصب، الذي يبدو أنه بدأ العمل عليه مبكراً من خلال الحرب السياسية والاقتصادية التي يخوضها التيار المحافظ بوجه الرئيس الحالي حسن روحاني، ومساعي إفراغ عهده من أي إنجاز حقيقي، حتى الاتفاق النووي الذي شكّل نقلة نوعية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الإيرانية، فإن هذا الإجراء يصبّ في إطار تعزيز الجهود الأميركية التي يقودها الرئيس دونالد ترمب لفرض مزيدٍ من العقوبات، وتضييق الخناق على النظام الإيراني في علاقاته الاقتصادية مع المجتمع الدولي.
قرار إدراج إيران على اللائحة السوداء لمجموعة FATF (اكبر مجموعة مراقبة لمكافحة الإرهاب في العالم ) ربما تكون أولى نتائجه السلبية هو تضييق المسافة بين المواقف الأوروبية، وتحديداً الترويكا والمواقف الأميركية، خصوصاً بعد فشل الحكومة الإيرانية في إقناع مراكز القرار في النظام بأهمية هذه الخطوة، وضرورتها من أجل عدم توسيع دائرة الحصار الاقتصادي، ولم يستطع استثمار فرصة السنة التي منحتها هذه المجموعة لروحاني وحكومته في الدفع باتجاه تبني النظام الانضمام إلى هذه المعاهدة.
وبالتالي، فإنّ هذه الفرصة انتهت عملياً بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية التي شكّل قرار المجموعة ضربةً جديدةً لحكومة روحاني تخدم أهداف التيار المحافظ والمعارضين لروحاني وإدارته، إلى جانب الضربة التي تلقاها تياره في النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات، التي أكدت خروج القوى الإصلاحية والمعتدلة من دائرة التأثير في السياسات التشريعية، تمهيداً لمزيدٍ من المحاصرة للحكومة على طريق استعادة السيطرة عليها.
وبالتالي، فإنّ عودة إيران إلى وضعها السابق "على اللائحة السوداء" لهذه المجموعة ستكون أكثر تعقيداً هذه المرة، وأكثر سوءاً، لأنها تقترن بالعقوبات الأميركية الاقتصادية، والحصار الذي تفرضه واشنطن على الحكومة والنظام بجميع مؤسساته، وأن التعاملات المالية بين إيران وبعض الدول، وتحديداً روسيا والصين اللتين لا تلتزمان كثيراً بالعقوبات الأميركية ضد إيران، إلا أنهما هذه المرة ستواجهان ضغوطاً وصعوبات دولية في إجراء عمليات مالية مع إيران، بغض النظر عن كل الآراء والمواقف التي يطلقها التيار المحافظ من أنّ عدم التوقيع على المعاهدة سينعكس إيجاباً على قوة ودور إيران في الساحات الداخلية والدولية والإقليمية.
إلا أنّ روحاني اعتبر أنّ إدراج إيران على هذه اللائحة يخدم الأهداف الأميركية التي تسعى إلى قطع علاقات إيران بالبنوك الدولية، ما يطرح سؤالاً محورياً وأساسياً عن الإيجابية التي يتحدّث عنها التيار المحافظ ومعارضو روحاني في عدم التوقيع على هذه المعاهدة.
ومن المعروف أنّ روحاني والإدارة الدبلوماسية لوزير الخارجية محمد جواد ظريف لم يتركا أي وسيلة من أجل إقناع النظام والسلطة في الجمهورية الإسلامية بضرورة انضمام إيران إلى معاهدة FATF في ما يتعلق باتفاقية باليرمو واتفاقية CFT لتجفيف مصادر تمويل الإرهاب.
فقد خاض روحاني ومعه ظريف معارك سياسية ضارية مع بعض مراكز السلطة والقرار في النظام من أجل إقناع هذه القوى بضرورة هذا الإجراء، خصوصاً بعد قرار ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018، ولعل تاريخ السابع من أغسطس (آب) عام 2018 شكّل المحطة الأبرز في هذا الصراع، عندما أعلن مجلس صيانة الدستور رفضه القانون الذي أحالته حكومة روحاني على مجلس الشورى (البرلمان) وإقرار الأخير، إضافة إلى إدخال تعديلات على قانون مكافحة غسل الأموال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في تلك المرحلة كانت الأسباب الموجبة التي أعلنها مجلس صيانة الدستور لرفضه تمرير هذا القانون، هي اعتباره متعارضاً مع الدستور والأحكام الشرعية، وبالتالي إعادته إلى البرلمان من أجل إدخال تعديلات على نصّه بما ينسجم مع المصالح الإيرانية والدينية والقومية والسياسية.
إلا أن إصرار البرلمان ومعه الحكومة، خصوصاً تمسّك علي لاريجاني بالنصّ الذي أقره البرلمان، أوصل الأمور إلى ما يشبه النزاع بين المجلسَين، وبالتالي باتت الضرورة الدستورية تفرض عليهما العودة إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام لبت الخلاف الحاصل حول دستورية وشرعية القانون موضع الخلاف.
لأكثر من سنة عمل مجلس تشخيص مصلحة النظام على المماطلة، وعدم حسم موقفه لصالح أيّ من القراءتين (البرلمان أم صيانة الدستور)، وهو ما وجد له أرضية خصبة مؤيدة داخل التيار المحافظ، وبعض مراكز القرار بالنظام، مدعومة بموقف واضح من المرشد الأعلى للنظام الذي دعا حينها البرلمان إلى إقرار قوانين "إيرانية" تعالج معضلة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، بدل إقرار قانون الالتحاق بمعاهدة FATF، فضلاً عن موقف المجلس الأعلى للأمن القومي الذي اعتبر أن الانضمام إلى هذه المعاهدة يتعارض مع مصالح إيران وأمنها القومي.
هذه المواقف في حينها أثارت غضب وزير الخارجية ظريف، الذي كان يقاتل على أكثر من جبهة دبلوماسية، خصوصاً قرارات الإدارة الأميركية بإعادة فرض عقوبات اقتصادية قاسية وغير مسبوقة ضد إيران على خلفية الملف النووي والبرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي، فضلاً عن العقبات التي تواجهها المفاوضات التي يجريها مع الترويكا الأوروبية للاتفاق على إطلاق آلية تعامل مالي وتجاري "إنستكس" للالتفاف على العقوبات الأميركية.
الأمر الذي دفع ظريف إلى خلع قفازات الهدوء والدبلوماسية، ووجّه اتهامات علنية ومباشرة حول حدوث عمليات غسل أموال كبيرة وضخمة داخل النظام المالي الإيراني، واعتبر رفض تمرير قانون معاهدة FATF يعود إلى "مصالح خاصة لأشخاص بعشرات مليارات الريالات"، ما دفع رئيس السلطة القضائية حينها ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام حالياً صادق لاريجاني إلى وصف كلام ظريف بأنه "الخنجر الذي طعن قلب النظام".
ويبدو أن روحاني وظريف خسرا معركتهما مع التيار المحافظ ومراكز القرار في النظام لإقرار هذه القوانين، والحدّ من التداعيات السلبية للحصار المالي الذي ربما تواجهه إيران في حال لم تلتحق بهذه المعاهدة، على غرار كثيرٍ من المعارك التي خاضاها في السنتين الأخيرتين والجهود التي بذلاها من أجل إقناع القيادة الإيرانية بضرورة التخفيف من حدة التوتر السياسي بين إيران والمجتمع الدولي، خصوصاً واشنطن، وترك الأبواب مفتوحة للمبادرات الدولية والإقليمية من أجل التوصّل إلى حلول تساعد على ترتيب تفاهمات، تعزز الاستقرار والأمن في الإقليم، وتقطع الطريق على التصعيد والتوتر حتى الحرب.