لا شك أن فكرة أساسية كانت تشغل بال الفيلسوف الفرنسي لوي ألثوسير خلال أيامه الأخيرة. فكرة لا علاقة لها لا بفلسفته التي صخبت كثيرا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت واحدة من الفلسفات التي ألهمت الشبيبة الفرنسية، وحتى غير الفرنسية، إبان ربيع العام 1968 الذي شهدته أنحاء عديدة من العالم، ولا بالسجالات التي خاضها مع وضد الحزب الشيوعي الفرنسي، ولا حتى بالكتب العديدة التي نشرها طوال حياة مثمرة ومتقلبة، ولا أخيرا طفولته في جبال الجزائر حيث ولد. كانت الفكرة عبارة عن صورة: صورة امرأته هيلين جاحظة العينين وقد ماتت بين يديه إذ خنقها عن قصد في ذلك اليوم الخريفي من العام 1980، قبل أن يخرج من شقتهما في شارع أولم الباريسي باحثا عمن يروي له ما حدث.
والحقيقة أن ألثوسير الذي روى الحكاية لأصدقائه ثم للبوليس فأمام المحكمة، لن يهدأ له بال إلا بعدما كتب فصولا عديدة من سيرته الذاتية قبل وفاته في العام 1990 بعنوان "المستقبل يدوم طويلا"... وهو لئن قد أورد في الكتاب فصولا مميزة حول طفولته وصباه ونضالاته وكتبه وتقلباته وما إلى ذلك، كان واضحا أنه إنما يفعل ذلك كي يتيح لنفسه، و"بقدر كبير من موضوعية مدهشة" أن يروي حكاية ذلك اليوم الذي تحوّل فيه من فيلسوف نخبوي إلى "قاتل زوجته"...
هيلين وقد جحظت عيناها
ولنقرأه هنا يفتتح الكتاب كما يلي: من المحتمل أن يجد الناس من الصادم لهم أنني لم أستسلم إلى الصمت بعد الفعلة التي اقترفتها، وبعدما استفدت من حكم محكمة برّأتني إذ اعتبرتني المحكمة غير مسؤول عما فعلت (...) ثم، يتابع: "بالشكل الذي احتفظت الذاكرة بالأحداث كما هي حتى في أصغر التفاصيل، محفورة عبر كل المحن التي مررت بها، وإلى الأبد – بين ليلتين، الأولى التي خرجت فيها دون أن أعرف من أين، وتلك التي سوف أدخل فيها (...) هاكم مشهد الجريمة كما عشته. فجأة وجدت نفسي واقفا بثوبي المنزلي عند أسفل السرير في شقتي داخل المدرسة العليا. كان يوما رماديّا من أيام نوفمبر – الأحد نحو التاسعة صباحا – (...) أمامي كانت هيلين ممددة على ظهرها بثوب نومها هي الأخرى. كان حوضها مرتاحا على طرف السرير وساقاها متروكتان على السجادة. وكنت أنا راكعا قربها منحنيا فوق جسدها أدلّك لها رقبتها. كان يحدث لي دائما أن أدلكها في صمت، رقبتها ثم ظهرها ومكان كليتيها (...) لكني هذه المرة كنت أدلك مقدم رقبتها. ورحت ـ أضغط بإبهاميّ مرة إلى اليمين مرة إلى اليسار بقوة راحت تشتد أكثر وأكثر. وكنت كالعادة أشعر بتعب في مرفقيّ من جراء التدليك. كان وجه هيلين هادئاً وجامداً وعيناها تحدقان بالسقف. فجأة شعرت بالرعب: تبيّن لي أن عينها أكثر جمودا مما يجب، ناهيك بأن طرف لسانها كان متدليا من فمها بكل هدوء. يقينا أنه كان قد سبق لي أن رأيت موتى كثرا في حياتي لكني لم يسبق لي أن رأيت وجه إنسان مخنوق... هنا استقمت في موضعي وصرخت: لقد قتلت هيلين...!".
حياة قبل الجريمة
هكذا كانت الحكاية إذن. الحكاية التي سترتبط إلى أبد الآبدين باسم ذلك المفكر الذي لسنا ندري ما إذا كان قد قُيّض له أن يفكر بما انتهى إليه أمره أو ما إذا كان قد أحزنه آخر حياته ان الجمهور الفرنسي العريض لم يسمع به بوصفه فيلسوفاً مجدّدا، بل فقط بوصفه فيلسوفاً مجنوناً قتل زوجته دون أن يدرك لحظة قتلها ما كان يفعل. كان قتل ألثوسير زوجته امراً غريباً في مسار حياته وهو العقلاني الحكيم الذي عرف دائماً كيف يحسب خطواته، وكيف يجعل من نفسه قدوة للمفكرين بشكل دفع حتى خصومه الفكريين إلى الاعتراف بمكانته، ودفع الشبيبة الفرنسية الثائرة على جيل الآباء في ايار (مايو) 1968 تعتبره واحداً من أساتذتها الفكريين، وذلك على رغم انتمائه المعلن للحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان محطّ اعنف الهجومات التي شنها ابناء ذلك الجيل الشاب جميعاً.
كان ألثوسير واحداً من المفكرين القلائل الذين آمنوا، انطلاقاً من الماركسية، بأسبقية علم التاريخ على أي علم آخر، وكان في هذا صنوا للإيطالي غرامشي. ولقد عبر ألثوسير عن إيمانه ذاك في مقطع من كتابه الشهير «انتصارا لماركس» الذي وضعه في 1965 وقال فيه: «إن التاريخ قد استولى على شبابنا منذ أيام الجبهة الشعبية والحرب الاسبانية، لكي يطبعنا، خلال الحرب العالمية الثانية، بتلك التربية الرهيبة التي تعتمد على الوقائع نفسها. لقد فاجأنا التاريخ هناك حيث أتينا إلى هذا العالم، ليحوّلنا من طلاب ذوي أصول بورجوازية أو بورجوازية صغيرة، إلى رجال ذوي خبرة في الطبقات وصراع الطبقات ومحور الصراع الطبقي...».
ولد لوي ألثوسير العام 1918، في الجزائر على بعد 15 كلم من العاصمة لكنه سيتلقى تعليمه في ليون على يد أستاذين كاثوليكيين ظلا صديقين له على الدوام: جان غيتون وجان لاكروا. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية جُنّد فيها فوقع في أسر الألمان حيث بقي خمس سنوات طبعت حياته كلها فيما بعد؛ ويرى البعض أنها كانت في أساس الاضطرابات السيكولوجية التي لم تبرز لديه إلا في سنواته الأخيرة، حتى وإن كانت قد ظلت تزعجه منذ البداية دون ان يصرح بذلك.
في الثلاثين من عمره نال ألثوسير الإجازة في الفلسفة وعُيّن على الفور أستاذاً لها فبدأ منذ تلك اللحظة بإعداد أجيال عديدة من المفكرين، وكان من بين تلامذته ميشال فوكو الذي وقع لفترة تحت تأثير أستاذه ما جعله ينتمي للحزب الشيوعي الفرنسي ولو انتماء عابراً. وكان ألثوسير قد كف منذ العام 1948 عن أن يكون مؤمناً لكي ينضم إلى «حزب الطبقة العاملة» على حد تعبيره. غير أن عشر سنوات مضت يومها على ألثوسير من دون أن يحقق أي مشروع من مشاريعه الوفيرة في عالم الكتابة، ولم يصدر خلالها سوى كتاب صغير عن مونتسكيو، لكنه في الوقت نفسه راح يعمل مع مجموعة من تلامذته على العديد من نصوص ماركس، وكانت النتيجة كتابين صدرا معا في 1965 وأحدثا دوياً في عالم الدراسات الماركسية: «قراءة رأس المال» و«انتصاراً لماركس». ومنذ تلك اللحظة لم يعد ألثوسير مجرد أستاذ للفلسفة وعضو في الحزب الشيوعي، بل أضحى مفكراً مشاكساً له شهرته في الأوساط الثقافية ويُعرف بعزمه الأكيد على مقارعة الذين كانوا في رأيه «يبتذلون الفكر الماركسي ويعملون على إيصاله إلى دماره» وكان في طليعة هؤلاء روجيه غارودي الذي اتهمه ألثوسير، بين آخرين، بأنه يريد أن يحرّف الماركسية نحو نزعة «إنسانوية» مبتذلة.
أما الخصم الثاني الذي وجّه له ألثوسير سهامه فكان سارتر... ولكن بالتحديد سارتر«الماركسي». ومع هذا فإن خط الدفاع الأول ضد ألثوسير قاده مفكرو الحزب الشيوعي الفرنسي أنفسهم الذين ألبوا المكتب السياسي للحزب ليصدر قراراً بتحريم كتابات ألثوسير بوصفها هرطوقية.. غير أن ذلك لم يؤد إلى طرده من الحزب، خاصة أن سيرة ألثوسير كانت قد اضحت من الضخامة بحيث لا يجرؤ أحد على المساس به. وفي تلك الأثناء وتحديداً بسبب إدانة كتبه صارت لألثوسير كل تلك الشعبية لدى الشبيبة التي كانت قد اكتشفت لتوها الثورة الصينية وتشي غيفارا وكتابات غرامشي، إلى جانب اكتشافها تيار الفكر النقدي الماركسي كما مثلته مدرسة فرانكفورت ولا سيما هربرت ماركوزه.
في هذا الإطار كان الدور الفكري الذي لعبه ألثوسير في انتفاضة الشبان في أيار (مايو) 68، قد عززه موقفه الليّن إزاء لاكان وفرويد معبراً عنه في كتابه «العودة إلى ماركس»، حيث راح يبحث عن ماركس جديد مجدّد – "ماركس المنتمي إلى نوع راسخ وعقلاني من الثورة الدائمة".
ولكن بعد انفضاض موجة الستينات الثورية عاد ألثوسير إلى مكانته كمجرد أستاذ وباحث مرموق، وكان المرض قد بدأ يقعده أكثر وأكثر، لكنه لم يحل بينه وبين الإعلان عن أن الأمور لا يمكن لها أن تدوم إلى الأبد كما هي عليه لا في الحركة الشيوعية العالمية ولا في الحزب الشيوعي الفرنسي، وأنه لا بد من ثورة إصلاحية. وحين مات ألثوسير تذكر الجميع أنه كان من أول المنبهين، لكن احداً لم يكن بعد راغباً في أية ثورة إصلاحية حقيقية.