بعد المعرض الاستعادي "كوبرا، اللون العفوي" الذي نظّمه لوجوه حركة "كوبرا" الطلائعية المجيدة، يحتفي متحف "بون أفين" في بريتانيا (فرنسا) حالياً بواحد من أبرز مؤسّسيها، الرسّام الهولندي كورناي (1922 ــ 2010)، عبر تنظيم معرضٍ ضخم له يعيد فيه خطّ مسيرته الفنية، من الفضيحة المؤسٍّسة لمرحلة "كوبرا" التي مارس كورناي خلالها رسماً مستوحى من رسوم الأطفال ومبنياً على التعبير العفوي للألوان وسلطة المخيّلة، وحتى التجديد التصويري الذي ميّز عمله انطلاقاً من الستينات، متوقفاً مليّاً عند الروابط الوثيقة التي تجمع مسعاه بمسعى الرسام الفرنسي بول غوغان.
في نهاية القرن التاسع عشر، صرّح غوغان بـ "واجب التجرّؤ على كل شيء"، وبأنه "طفلٌ وإنسانٌ متوحّش". وبالتزامه كلياً بهذا التصريح في فنّه، يُعتبر أوّل مَن حرّر اللون وتبنّى نوعاً من "البدائية" المستوحاة من الفنون غير الغربية ومن التقاليد الشعبية التي اكتشفها وتأمّل فيها خلال إقامته في بريتانيا وتاهيتي وجزر الماركيز. ولهذا السبب تحديداً، شكّل هذا العملاق الرسام المفضّل لكورناي، مع فان غوغ، ومعلَماً أساسياً في تاريخ الفن سمح له بالنظر إلى العالم بطريقة مختلفة، وبالعثور على أُسُس رسمه الخاص. وفعلاً، منذ سنوات "كوبرا"، استلهم كورناي فنّه من رسوم الأطفال والفنون "البدائية" والشعبية، وأنجز لوحات تنحدر أشكالها البسيطة وألوانها الصافية من "بدائية" غوغان، قبل أن يرسم في السبعينات لوحات عري نسائي داخل مناظر طبيعة غَضِرة، تشكّل صدى لافتتانه بنساء تاهيتي الماثلات في لوحات معلّمه.
الأنطلاقة الأولى
انطلاقة كورناي الفنية كانت عام 1940 في أكاديمية أمستردام للفنون الجميلة حيث رفض بسرعة تعليم أساتذته الذين كانوا ينظرون إلى ماتيس كمجرّد مزخرِف وإلى فان غوغ كرسّام سيّئ. لكن يجب انتظار سفره إلى هنغاريا عام 1947، حيث اكتشف الشعر والفنّ السورّياليين على يد الرسام جاك دوسيه والشاعر إيمري بان، كي ينطلق في أبحاث تشكيلية قادته إلى عمل جديد، حرّ وشعري، توقّف فيه عن الرسم وفقاً للطبيعة وأولى أهمية كبيرة للمخيّلة، محرّراً خطوط لوحاته ومستخدماً ألواناً نيّرة ينبثق منها عالمٌ خيالي تقطنه مخلوقات خارقة ووحشية. وفي العام نفسه، أسّس مع صديقيه كاريل أبيل وكونستان "المجموعة الهولندية التجريبية" التي أصدرت مجلة Reflex ودعت إلى فنٍّ اختباري وعفوي يرفض الواقعية الأكاديمية وتجريد موندريان الهندسي.
ومن رحم هذه المجموعة، انبثقت حركة "كوبرا" التي جمعت بين عاميّ 1948 و1951 فنانين وشعراء من كوبنهاغن وبروكسيل وأمستردام (من هنا اسمها)، وشكّلت لكورناي الشاب فرصة لنسج صداقات جديدة واكتشافات محدِّدة لفنّه، أبرزها اكتشافه في كوبنهاغن لوحات أسغِر يورن التجريدية العفوية المستوحاة من الفنون التقليدية الاسكندينافية، والتي دفعته إلى عفوية أكبر في لوحاته، إلى استخدام ألوان أكثر فأكثر صفاءً وإلى اعتماد الفنون الشعبية كمراجع حاسمة. وفي سياق "المعرض الدولي الأول للفن التجريبي" في متحف "ستيديليك" (أمستردام) عام 1949، الذي ضمّ أعمالاً لجميع أعضاء حركة "كوبرا" وشكّل فضيحة في هولندا بكشفه مفهوماً جديداً للفن يرفض قِيَم الفن الغربي التقليدية الموروثة من القرن التاسع عشر، كتب الفنان في مجلة "كوبرا": "الجمالية عادة مستهجَنة للحضارة، الفن رغبةٌ فجّة، وأفضل لوحة هي تلك لا يمكن العقل أن يتقبّلها".
داخل "كوبرا"، شارك كورناي في ابتكار أعمالٍ جماعية تشهد على رؤية ثورية للفن موروثة من السورّيالية، وزيّن بالرسوم مجموعات رفاقه الشعراء، مثل كريستيان دوترومان وهوغو كلاوس، وكتب بنفسه قصائد وأنجز "لوحات ــ كلمات". وبموازاة افتتانه الشديد برسوم الأطفال، اهتمّ برسوم المرضى العقليين، كما يشهد على ذلك اقتناؤه دفتر أعمال الندوة الدولية الأولى التي خُصٍّصت في باريس لفنّهم، وتزيينه هوامش صفحاته برسوم نفّذها بالحبر الأسود. دفتر يمكننا تصفّح نسخة إلكترونية منه في معرضه الحالي، ويشكّل حصيلة فريدة لأبحاثه الفنية أثناء مرحلة "كوبرا".
العين المسافرة
ومثل غوغان، طاف كورناي في أرجاء المعمورة وشكّلت أسفاره محطات مهمة في حياته غذّت بشكل جوهري عمله الفني حيث تنعكس رؤيته الشخصية والشاملة للعالم. فعام 1948، توجّه إلى أفريقيا الشمالية التي شغف بها إلى حد دفعه إلى العودة إليها عام 1951 وإلى التنقّل في صحراء الجزائر حيث اكتشف أبجدية الـ "تيفيناغ" الأمازيغية التي قادته إلى تبنّي أسلوباً هندسياً يتجلى في اللوحات التي أنجزها مطلع الخمسينات. وبين 1956 و1957، عبر أفريقيا الوسطى، من السنغال إلى كينيا، قبل أن يحطّ في أثيوبيا ويُفتَن باللوحات "الساذجة" في الكنائس القبطية.
عام 1957، قصد أميركا اللاتينية، وتحديداً جزر الأنتيل الهولندية، وفي العام اللاحق، نيويورك. وخلال الستينات، أقام مراراً في البرازيل وكوبا والمكسيك، قبل أن يتقرّب من عالم غوغان في السبعينات بتنقّله بين الصين واليابان وإندونيسيا. ومن جميع هذه الأسفار، بلور أسلوباً وصفه الناقد ميشال راغون بـ "المشهدية التجريدية"، وأنجز كورناي بواسطته لوحات ــ مشاهد سعى فيها إلى تجسيد طاقة الأرض الحيوية من خلال تلاعب حاذق ومعقّد بالألوان والخطوط أفضى إلى أشكال تتراوح بين تشبيكات باهرة ومتاهات آسِرة وشموساً منيرة.
وفي نهاية السبعينات، عاد الفنان إلى الرسم التصويري، فاجتاحت النساء والعصافير والأشجار والزهور والأفاعي لوحاته الجديدة ضمن مسعى احتفائي بمتعة الحياة والرسم. لوحات تخلى فيها عن الألوان الجيولوجية للمرحلة السابقة لصالح عربدة من الألوان النيّرة، وأحياناً الفاقعة، المستوحاة من النباتات الاستوائية التي اكتشفها في البرازيل وكوبا. لوحات تُحاور طبيعتها الغضِرة مشاهد غوغان التاهيتية، وتحوَّلَ رسمُ صاحبها فيها إلى فردوسٍ مستعاد تتقاطر داخله تطلّعاته كرسّام ورغباته كرحّالة شغوف بمختلف ثقافات العالم.
وفي المرحلة الأخيرة من حياته، تبنى كورناي أسلوباً رساميّاً بسيطاً جداً، "ساذجاً" في ظاهره، استحضر بواسطته مجدداً لوحات الكنائس القبطية الأثيوبية وفنون المكسيك الشعبية والمنحوتات الأفريقية "البدائية"، مبتكراً لغة تشكيلية جديدة شكّلت حصيلة لأربعين عاماً من الترحال والأبحاث الفنية، وفي الوقت نفسه، ركيزة مثالية لإفلات العنان مجدداً داخل لوحاته لتلك الروح اللعبية والطفولية لمرحلة "كوبرا".