بدل التنبّه إلى انتشار "فيروس الخنازير" في فيتنام آتياً من أفريقيا، وبدل التنبّه إلى التدهور المريع في البيئة الذي يسهم في نشر أنواع الأوبئة والأمراض، وبدل إثارة نقاش مجدٍ عن كفاءة النُظُم الصحيّة في مواجهة الأوبئة، بدل ذلك كله سقطت وسائط إعلام رقميّة كثيرة في فخّ الحديث عن "الفيروس إكس" X virus ووبائه وضحاياه، على الرغم من أنه غير موجود أصلاً!
تكراراً، "الفيروس إكس" ليس عنصراً وبائيّاً موجوداً. وثمة مشكلة في إعلام يتداول أخباراً حساسّة من دون الاهتمام بسوى الإبهار والدويّ وأرقام الـ "لايك" والمشاهدات والمشاركات وغيرها. ولأن تلك الأرقام تتصل بالـ "سوشيال ميديا"، يجدر تنبيه جمهور شبكات التواصل الاجتماعي بالذات إلى أنّ الحديث عن "الفيروس إكس" هو أقرب إلى ظاهرة "الأخبار الكاذبة" Fake News التي تتضخّم باستمرار منذ انتخابات الرئاسة الأميركيّة في العام 2016. تذكيراً، تعتمد "الأخبار الكاذبة" على مواد إعلاميّة تمزج وقائع مع ما لا صحة له، سواء عن قصد أو تقصير.
ويعطي "الفيروس إكس"، نموذجاً عن ظاهرة "الأخبار الكاذبة" في الإعلام العام، خصوصاً الإعلام الرقمي وشبكاته. في الوقائع، ابتدأ الحديث عن وباء الفيروس "إكس" في مارس (آذار) في العام 2018، عقب صدور تقرير علميّ عن اجتماع عقدته "منظمة الصحة العالميّة" في مقرّها في جنيف، ضمّ كبار خبرائها في مجال الأوبئة. وكان ذلك الاجتماع هو الثالث من نوعه، إذ عقد للمرّة الأولى بعد معركة استمرت بين العامين 2013 و2015 مع موجة بدت شبه مستعصية من فيروس "إيبولا" في أفريقيا، خصوصاً الساحل الغربي فيها. ولامست تلك الموجة أميركا، وكادت أن تنتقل إلى أميركا وكندا. وكان تقريرهم هو المرّة الأولى التي يرد فيها مصطلح "الفيروس إكس"، باعتباره افتراضاً علمياً، وليس كفيروس موجود فعليّاً.
وآنذاك أيضاً، دار نقاش علمي معمّق عن دورس التخبّط في مواجهة فيروس "إيبولا"، خصوصاً مسألة ضعف نُظُم الرعاية الصحيّة عالميّاً حيال الأوبئة وموجاتها. وحينها، رصد ذلك الأمر نفسه بيل غيتس، المؤسّس الأسطوري لشركة مايكروسوفت ومموّل "صندوق ميلندا وبيل غيتس" الذي أسهم في المعركة المتخبطة ضد فيروس "إيبولا" في أفريقيا.
العام 2018 تصادف مع مرور قرن على وباء "الإنفلونزا الإسبانيّة" التي انفلتت في الولايات المتحدة في آذار (مارس) في العام 1918، ونقلها جنود أميركيون إلى أوروبا إبّان الحرب العالميّة الأولى
درس من الحرب العالميّة الأولى
في العام 2016، ارتفع القلق من الفشل في التصدي للأوبئة مجدّداً، مع عودة "إيبولا" إلى أفريقيا عبر إصابات ظهرت في سيراليون. ولا تكتمل صورة القلق من الأوبئة والفيروسات من دون الإشارة ولو سريعاً، إلى الفيروسات الصناعيّة المُركّبة بيولوجيّاً، بمعنى أنها فيروسات لا توجد طبيعياً لكن هناك مختبرات علميّة تستطيع صنعها وتعطيها التركيب الذي تريده.
ويجدر أيضاً تذكّر أنّ العام 2018 تصادف مع مرور قرن على وباء "الإنفلونزا الإسبانيّة" التي انفلتت في الولايات المتحدة في آذار (مارس) في العام 1918، ونقلها جنود أميركيون إلى أوروبا إبّان الحرب العالميّة الأولى، وانتشرت عالميّاً. وفتكت بأرواح ما يتراوح بين 50 مليوناً و100 مليون شخص، قضوا في تلك الجائحة التي تُعتبر الأسوأ في تاريخ الأوبئة.
في ربيع العام 2018، عُقد الاجتماع الثالث لخبراء الأوبئة في "منظمة الصحة العالمية". وبعد نقاشات معمقة، اتّفق الخبراء على وضع لائحة للأوبئة الأكثر تهديداً للبشر. وللمرَّة الأولى، وضع العلماء منهجاً للتفكير عن وباء يأتي من فيروس لا وجود فعليّاً له، وذلك بهدف الإنذار والتحذير من المجهول، ورفع مستوى الاستعداد لمواجهة الأوبئة. وصاغوا مصطلح "المرض إكس" للإشارة إلى المواصفات التي يتوجّب أن يمتلكها فيروس مفترض كي يطلق وباءً يصعب التصدي له عالميّاً.
في ذلك السياق، تحدّث الخبراء عن احتمال أن ينفلت عنصر وبائي من مختبر ما يشتغل على الفيروسات وتراكيبها (بالأحرى، يعيد تركيبها صناعياً لتكون أشد انتشاراً وأكثر ضرراً، سواء بفعل دولة مارقة تريد ابتزاز العالم بسلاح فيروسي، أو بتسرّبه إلى تنظيمات إرهابيّة، أو غيرها).
وفي اجتماعهم في العام 2018، لاحظ أولئك الخبراء أيضاً أن الاضطراب المناخي يضرب الأوضاع الطبيعيّة المستقرة منذ حقب مديدة، ما يهدّد باحتمال أن يخرج من عالم الحيوان فيروس ما يكون أشد فتكاً مما انطلق منها سابقاً، على غرار فيروس "إيبولا".
لنتذكّر الشيء الواقعي: رسالة إنذار من بيل غيتس
قبل ثلاث سنوات، استناداً إلى تجربة "صندوق ميلندا وبيل غيتس" في مكافحة موجة "إيبولا" في العام 2015، نشر بيل غيتس رسالة إعلاميّة عمّمها على نطاق واسع، تضمّنت تنبيهاً مرتفع النبرة إلى عدم وجود جاهزية دولية فعليّاً للتصدي للأوبئة، ما يتناقض مع التقدّم العلمي الضخم الذي يحوزه الطب المعاصر.
واستهل غيتس الرسالة التي حملت عنوان "الموجة المقبلة من العدوى"، بالإشارة إلى أنّ "المأساة الهائلة التي تعيشها غينيا وسيراليون وليبيريا، لأن ما ضربه وباء "إيبولا" تجاوز الخسائر البشريّة، ووصل إلى تحطيم نُظُم الصحة والاقتصاد في تلك البلدان. ونجحت صدمة الوباء في التنبيه إلى الكارثة التي سوف تحملها موجة عالميّة من العدوى، التي ربما تنطلق من أسباب عادية أو بأثر من إرهاب بيولوجي. لنتذكر أن وباء الأنفلونزا قضى على قرابة 30 مليوناً بين العامين 1918 و1920. وأثبتت موجة "إيبولا" أنه ما لم يتأهّب العالم في شكل مناسب، فالكارثة التي تسبّبها عدوى ما في المستقبل، ستكون فادحة تماماً".
وأضاف غيتس: "من المفيد المقارنة بين استعداداتنا لمواجهة الأوبئة، وما نفعله استعداداً للحروب. إذ يملك حلف "ناتو" فرَقاً كبيرة مجهزة للتدخّل في حال اندلاع طوارئ، وتتدرّب على تفاصيل عملياتها في مواجهة الكوارث، كإمدادات الطعام والمياه والوقود ونُظُم الاتّصالات وأجهزتها التي ستسخدم حينها... في الولايات المتحدة، كانت مناورة "الشتاء القاتم" في العام 2001، هي المرة الأخيرة التي تمّ فيها التدرّب على مواجهة وباء عالمي. ولم تلتزم سوى دول قليلة "قوانين الصحة العالميّة" التي وُضعت لمواجهة وباء "سارس"، فيما تعجز معظم الدول عن إنشاء "مركز لعمليات الطوارئ" خلال ساعتين من اندلاع وباء عالمي، وهو من شروط "الأجندة العالميّة للأمن الصحي" التي أقرّت في العام 2014"!
وفي سياق شرحه لتصوّره عن نظام ملائم لاحتواء الأوبئة المقبلة، أشار غيتس إلى أنّ "البنك الدولي" يعتقد بأنّ: "موجة واسعة من وباء إنفلونزا في إمكانها أن تخفّض ثروة العالم قرابة 3 تريليون دولار، ويرتفع الرقم إلى 7 تريليون دولار إذا انفلتت من السيطرة، إضافة إلى ملايين الأرواح. وكي نستعدّ لمواجهة تفشّ وبائي، اقترح مجموعة من الإجراءات الأساسيّة، يتصدّرها تدعيم نظام الصحة العامة ونُظُم الرعاية الصحيّة الأوليّة، مع تجهيز بنى تحتيّة ملائمة وفعّالة. ويجب الارتقاء بنظم مراقبة الأمراض التي تغيب عن معظم الدول الفقيرة، على الرغم من أنّها هي المرشحة لتكون نقطة انطلاق أي وباء مقبل".