نعرف الإيطالي ماركو ملفالدي كاتب روايات بوليسية تحظى بشعبية كبيرة في وطنه. وها هو يمنحنا في عمله الأخير، "قياس الإنسان"، رواية تاريخية مهمة صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "سوي" بعنوان "حصان سفورزا"، وتشكّل، إلى جانب حبكتها البوليسية المشوِّقة، سفراً ممتعاً بقدر ما هو مثقِّفاً داخل واحدة من أكثر مراحل تاريخ إيطاليا سحراً، عصر النهضة. رواية تتوق خصوصاً إلى تسليط الضوء على عبقرية الرسام العبقري ليوناردو دافينشي، شخصيتها الرئيسة.
أحداث الرواية تدور في دوقيّة ميلانو عام 1493، أي مباشرةً بعد وفاة حاكم فلورنسا، "لورينزو الرائع"، ووصول سفن كريستوف كولومبوس إلى "العالم الجديد"، وتأسيس النظام المالي الحديث بفضل تبنّي المصارف الأوروبية ما يُعرَف بـ "رسالة الاعتماد". على عرش الدوقيّة المذكورة، يتربّع لودوفيكو سفورزا الذي لُقِّب بـ "المعتِم" نظراً إلى استيلائه على السلطة بطريقة غير مشروعة، بواسطة سلسلة من الدسائس والخيانات والجرائم، لكنه شكّل خلال سنوات حكمه خير راعٍ للفنون، كما تشهد على ذلك دعوته رسامين كباراً إلى بلاطه، وفي مقدّمهم ليوناردو دافينشي.
في مطلع الرواية، نرى دافينشي يعيش مع أمّه كاترينا وتلميذه المفضَّل ساراي في شقّة تقع فوق محترفه، ويعمل على إنجاز منحوتة ضخمة هي عبارة عن حصان من البرونز يمتطيه فرانشيسكو سفورزا، والد لودوفيكو. منحوتة يختبر أثناء تنفيذها مشاكل تقنية عديدة، لكنها لا تمنعه من متابعة مشاريع فنية أخرى وأبحاث علمية لا تحصى كان يدوّن أسرارها في دفترٍ لا يفارقه أبداً. وفي أحد الصباحات، يعثر حاجب لودوفيكو على جثة رجل في باحة القصر، فيطلب الدوق أولاً من منجّمه الشخصي تفحّص هذه الجثة لمعرفة سبب وفاة صاحبها. لكن عدم اقتناعه بتشخيص هذا المنجّم (الذي سيعزو السبب إلى مرض غامض ويدافع عن تشخيصه بقوله: "النجوم لا تكذب!")، يدفعه إلى استدعاء دافينشي ومناشدته وضع معرفته العميقة في علمَيّ البيولوجيا وتشريح الأجساد لسبر هذا اللغز وتبديد الشك باحتمال انتشار الطاعون في المدينة. وبسرعة، يكتشف دافينشي أن هذا الرجل طلب مقابلة الدوق قبل يوم من موته، لكن المقابلة لم تحصل، وأن وفاته ليست طبيعية، بل سببها عملية اغتيال تعمّد مَن ارتكبها رمي جثة ضحيّته في باحة القصر لإحراج لودوفيكو في داره.
حبكة معقدة
لن نكشف الطريقة التي سيقود رسّامنا العبقري بها تحقيقه في هذه الجريمة أو مآله كي لا نفسد متعة قراءة الرواية، لكن ما يمكننا قوله هو إن حبكتها تضارع في تعقيدها وجانبها المشوِّق تلك التي وضعها مواطن مالفالدي، أمبرتو إيكو، لرائعته "اسم الوردة"، علماً أن الجريمة المذكورة ومخطّطها الجهنّمي ليسا مركزيين فيها، على أهميتهما، بل مجرّد ذريعة للكاتب من أجل مقاربة موضوعات أكثر أهمية، كطبيعة التحالفات السياسية بين مختلف القوى الفاعلة آنذاك في الإمارات الإيطالية، وأوروبا عموماً، ولعبة المصالح المتشابكة ودور المصرفيين ورجال الدين المهم فيها، والتطوّرات الراديكالية التي شهدتها العلوم والفنون في تلك الحقبة ونتائجها على المستويين الاجتماعي والديني، من دون أن ننسى النظام الطبقي الذي كان يتحكّم بالعلاقات بين البشر.
ولا بأس إن كان قارئ الرواية يجهل كل شيء عن ميلانو وإيطاليا في نهاية القرن الخامس عشر، فملفالدي لا يتوانى عن مدّه تدريجياً بكل ما يتوجّب عليه أن يعرفه، لا بل يغذّيه عنوةً بالمعطيات التاريخية والعلمية والفنية خلال قراءته، منتشياً بذكائه الحادّ، ولا يمتنع عن محاورته بطرافة وعن إجراء مقابلة منيرة بين تلك الحقبة وحقبتنا الراهنة، ما يخفّف من ثقل نصّه ويضفي عليه حيوية وفكاهة ممتعتين.
أما شخصيات روايته، فرسمها بدقّة ومهارة، وفي مقدّمها دافينشي الذي يظهر لنا كعبقري كان يسبق عصره في ميادين معرفية مختلفة، ومع ذلك فشل في إنجاز بعض مشاريعه (كمنحوتة البرونز)، وخصوصاً كإنسان مميّز في سلوكه، كان يرتدي ملابس زهرية اللون ويمتنع عن أكل اللحوم ولا يخفي عمهيّته على المستوى الروحي (agnosticisme) في فترة شديدة التديّن. رجل كان متعلّقاً بأمّه إلى حد عيشه معها، لكنه كان يملك الجرأة على مواجهة رجال السلطة بعيوبهم، ويثير إعجاب بعضهم، وقلق بعضهم الآخر، باكتشافاته العلمية. وهو ما يفسّر توكيل ملك فرنسا، شارل السابع، مبعوثيه إلى دوقية ميلانو بمهمة سرقة دفتره الخاص الذي كان يدوّن داخله جميع ابتكاراته بلغة مشفَّرة ومكتوبة من اليمين إلى اليسار. دفتر كان من المفترض أنه يتضمن مشروع فارس آلي لا يُقهَر قضّ مضجع الملك المذكور وحكّام كثر غيره. باختصار، شخصية آسِرة، تائهة دوماً داخل أفكارها وحساباتها، تبدو لنا وكأنها تعيش في بُعدٍ آخر، لكنها تتمتّع بحسّ مراقبة واستنتاج عاليين، كما يتجلى ذلك من استخلاصها أدقّ الروابط بين الأحداث التي عايشتها، ومن حلّها لغز جريمة الاغتيال بمنطقٍ وذكاء نادرَين.
في مكانٍ ما من الرواية، يقول دافينشي إن قياس أي إنسان مرتبط بمدى قدرته على "التطوّر والتعلّم". وهذا ما يسعى ملفالدي إلى إظهاره من خلال تصويره سيرورة تطوّر جميع شخصياته، وأوّلها مواطنه الشهير. سعيٌ يمكّنه من إعادة إحياء هذا العبقري، في مناسبة مرور 500 عام على وفاته، ومن الاحتفاء بنبوغه عبر جمعه الأدب والعلم والفن والتاريخ واللغز داخل سردية واحدة، بعض أحداثها مبتكَرة، لكن معظم تفاصيلها مبنية على وقائع حقيقية. سردية هي إعادة تخيُّل حاذقة، لا بل شديدة الدهاء، لمرحلة مهمة من حياة دافينشي، ومن خلالها، لحقبة مفصلية من تاريخ أوروبا مليئة بالاضطرابات والتحوّلات السياسية، من جهة، وبالاكتشافات العلمية والأدبية والفنية، من جهة أخرى، وبالتالي بالتحديات للنظام الديني "الطبيعي" الذي كان سائداً خلالها.