يعيد تصعيد العمليات العسكرية التي حصلت في الأسبوعين الماضيين في بلاد الشام، تكريس سوريا ملعباً للتنافس والتناقضات الإقليمية التي لا علاقة لها بمجريات وتفاصيل الصراع السوري الداخلي. وهي أصلاً صارت هذا الملعب منذ دخلها الروس في آخر شهر سبتمبر (أيلول) عام 2015 لإنقاذ نظام بشار الأسد من الدعم التركي والعربي للمعارضة السورية التي كانت في حينها على مشارف دمشق وتهدّد بإسقاط نظام البعث والتركيبة العائلية والاستخباراتية الحاكمة.
ولعلّ القاعدة التي تتحكّم بمجريات الصراعات الدولية والإقليمية في التنافس بين الطموحات الإمبراطورية للدول الثلاث الأكثر وجوداً على المسرح السوري، أي روسيا وإيران وتركيا، بهدف ترسيخ النفوذ والتمدد في شرق البحر الأبيض المتوسط هي التي تفسّر كثيراً من الحروب المتنقلة على المسرح السوري. وليست المرة الأولى التي يترنّح فيها مسار أستانا الذي ابتدعته موسكو بين الدول الثلاث، تحت عنوان اتفاقات خفض التصعيد في مناطق الحرب الأهلية الدائرة فيها، منذ مايو (أيار) عام 2017. فهذا الاتفاق كان نوعاً من التقاط الأنفاس بين هذه القوى الثلاث من أجل تنظيم تقاسم النفوذ بينها كأمر واقع نظّمه مايسترو الكرملين، في موازاة انكفاء عربي كامل عن سوريا وتفاهم ضمني أميركي روسي على ضمان مصالح إسرائيل الأمنية حيال تمدّد إيران على امتداد الأرض السورية واستفادتها من حرية الحركة من أجل رفع مستوى تسليح "حزب الله" في لبنان.
سقوط "خفض التصعيد" وترنّح مسار أستانا
منذ اتفاق وقف التصعيد الذي شمل 3 مناطق هي: محافظة إدلب، (إلى الشمال من حمص)، الغوطة الشرقية، وجنوب سوريا التي تنشئها الدول الثلاث الضامنة والأطراف المعنية الأخرى التي كان المقصود بها الأردن من جهة محافظة درعا، وضمناً إسرائيل من جهة محافظة القنيطرة، حصلت تطورات على الأرض أدت إلى إخراج المعارضة من الغوطة والجنوب، بتعاون روسي إيراني مع قوات نظام الأسد، بغض نظر من أردوغان الذي كان الداعم الرئيس للفصائل المقاتلة المعارضة للنظام، مقابل التوافق معه على تكريس نفوذه في الشمال في مواجهة تمدّد "قوات سوريا الديموقراطية"، التي جلّها من الأكراد والمنتشر في صفوفهم نظير الحزب الديموقراطي الكردستاني، المحظور من جانب أنقرة. هؤلاء ضحت بهم واشنطن حين قررت سحب قواتها من الشمال الشرقي، لصالح توغّل القوات التركية في الشمال بحجة ضرب "الإرهاب" وإقامة منطقة آمنة لإعادة النازحين السوريين في تركيا إليها. لكن الأبرز أنه بدلاً من تسليم منطقة إدلب إلى النظام كما حصل في الغوطة ودرعا حين جرى إسقاط اتفاق خفض التصعيد، فضّلت موسكو تجنّب معركة إدلب لضمان استمرار تعاون أنقرة معها في المجالَيْن العسكري (شراؤها منظومة الدفاع الجوي إس 400) والسياسي، بأخذ مسافة عن واشنطن.
في كل مرة كان مسار أستانا يترنّح، كان اعتراف موسكو بمصالح أنقرة وطهران ينقذ العلاقة مع الدولتين. وفي ما يخص الجانب الإيراني، تخلّى فلاديمير بوتين عن "وعده" لدونالد ترمب (في قمة هلسنكي صيف عام 2018) بالسعي لسحب إيران من سوريا، لصالح تراجعها 50 إلى 80 كيلومتراً عن الحدود مع إسرائيل. وفضلاً عن أن الكرملين لم يكن قادراً على إجبار طهران على الانسحاب، لم يرد ذلك طالما أن لا ملامح اتفاق واضح بينه وبين البيت الأبيض على أزمات عالمية أخرى، أبرزها أوكرانيا، فعمل على خفض نفوذ طهران في دمشق وتمدّدها نحو حلب وريفها وحمص، وعلى الحدود السورية اللبنانية، عبر نشر الشرطة الروسية في بعض المواقع، وعن طريق إنشاء وحدات عسكرية متفرقة داخل الجيش السوري (الفيلق الخامس) ومنافسة دور "الحرس الثوري" الإيراني في وحدات أخرى. استبدل بوتين الصدام مع طهران، باتفاق مع أردوغان في سوتشي في 18 سبتمبر (أيلول) 2018، قضى بضمان أنقرة إخراج القوى المصنفة إرهابية من المحافظة مثل "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة) وغيرها من الفصائل المصنفة قريبة من "القاعدة"، مع قيام منطقة عازلة بين المقاتلين الذين تجمعوا هناك بعد نقلهم من الغوطة وحمص وحلب... وبين الجيش النظامي الذي أصرّ على محاصرتهم، تمهيداً لدخول المدينة.
عاملان أطلقا الإجازة الروسية لإسقاط إدلب
عاملان طرآ في الشهرين الماضيين، بعدما كانت موسكو كبحت جموح النظام السوري منذ أبريل (نيسان) 2019 عن شن الهجوم الذي كان يتحضّر له على إدلب لاستعادتها بدعم من طهران.
الأول إقحام أردوغان الجيش التركي في الحرب الليبية في سياق طموحاته العثمانية لاستعادة أمجاد السلطنة، وبحلفه مع الإخوان المسلمين، في وقت بدأت موسكو تثأر لما تعتبره "الخديعة" الأميركية لها عام 2011، حين استغلت إدارة باراك أوباما قرار مجلس الأمن من أجل الإطاحة بمعمر القذافي ثم بالسعي إلى إعادة تركيب الحكم الليبي من دون أي اعتبار لدورها السابق في المغرب العربي من خلال طرابلس الغرب. فالكرملين مهّد لاسترجاع دوره هناك بعناية وركّب حصان المشير خليفة حفتر وجيشه الذي أرسل أردوغان قواته لمقاتلته، قافزاً مسافة طويلة ليرسّم الحدود البحرية مع طرابلس لأسباب تتعلق بالثروة النفطية، مستبقاً سعي موسكو إلى ترسيخ دورها في النفوذ على الخريطة النفطية والغازية في البحر الأبيض المتوسط. ولم تكن صدفة أن يُقتل 10 جنود أتراك في ليبيا غداة مقتل الـ33 جندياً نتيجة قصف الجيش السوري في إدلب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الثاني هو فشل جهود بوتين لدفع أردوغان إلى الانفتاح على الأسد، بعد سلسلة لقاءات على مستوى الاستخبارات في البلدين. آخرها منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، إثر زيارة بوتين مطلع العام إلى دمشق ثم أنقرة، انتهى إلى فشل في التقارب، أصرّ خلاله الجانب التركي على المنطقة الآمنة شمال سوريا، فاعتبرت دمشق أن حقان فيدان، مسؤول الاستخبارات التركية حمل معه "إملاءات".
يضاف إلى ذلك، الانسداد الذي بلغته جهود الحل السياسي في سوريا لا سيما في عمل اللجنة الدستورية برعاية الموفد الدولي غير بيدرسون في جنيف. فكل المعطيات تفيد بأن المناقشات تعود إلى نقطة الصفر من دون تقدّم يُذكر، لأن ممثلي النظام يتبعون خطة إطالة البحث والغرق في التفاصيل منعاً لولوج أي نتيجة. وواكب ذلك تراجع الدول العربية الرئيسة عن الخطوات الانفتاحية على النظام. هكذا تلاقت العوامل السورية الداخلية مع الموقف الروسي من أجل بدء الحملة العسكرية على إدلب.
إطاحة اتفاق سوتشي والخسائر الإيرانية
"الإجازة" الروسية للجيش السوري من أجل التقدم في محافظة إدلب خلال الأسابيع الماضية، مع تغطية السلاح الجوي الروسي قضمت قرى عدّة، ما أطاح باتفاق سوتشي، واعتبرت أنقرة أن السيطرة على منطقة خان شيخون وسراقب خرقاً للتفاهم ولاتفاق تمركز نقاط المراقبة التركية التي حوصرت وضُربت.
ومثلما لم يحسب أردوغان جيداً ردة الفعل الروسية على تدخله في ليبيا، لم يحسب لا الجانب الروسي ولا الجانب السوري ومعه الجانب الإيراني ردة فعله على استهداف الطيران قوافل جنوده ومراكزهم، حين شنّ طيرانه ومدفعيته هجمات انتقامية غير مسبوقة على الجيش السوري وعلى قوات إيرانية وأخرى تابعة لـ"حزب الله" كانت تساند الجيش السوري في هجماته على قرى المحافظة، فجاءت خسائر هؤلاء جميعاً كبيرة، ما دفع طهران إلى الاتصال بالجانب التركي من أجل التهدئة وحتى من أجل إتاحة سحب الجثث، التي تردّد أن جزءًا منها (العراقية أو الأفغانية) جرى دفنه في مقابر السيدة زينب في دمشق، فيما جرى نقل الإيرانية منها إلى إيران. وبدا أنّ الخسائر الإيرانية ومن ضمنها خسائر "حزب الله"، لم تزعج الروس الذين لم يستجيبوا لطلب تدخل طيرانهم لحماية مقاتلي الميليشيات التابعة له.
استعرض أردوغان قوة جيشه، خصوصاً صناعاته العسكرية، مثبتاً تفوّقها لا سيما طائراته المسيّرة الدقيقة، بعدما تلقى ضربة غير محسوبة من الجيش السوري بغطاء روسي. واستوعبت موسكو أهمية عدم تصعيد المواجهة مع الجيش التركي بعد الضربة التي تلقاها، فامتنعت عن استخدام طيرانها لتغطية الجيش السوري والميليشيات الإيرانية، لا سيما أن أردوغان استبعد الصدام مع الجيش الروسي واستعاض عنه بعنف الرد على الجيش السوري. وهو أمر حصل على الرغم من أنه يخرق تفاهماً ضمنياً مع موسكو، يقضي بتجنب استهداف الجيش الذي تخطّط لإعادة بنائه كي يلعب دوراً في الحل السياسي عندما يحين وقته. فالقصف التركي أخرج مطار النيرب العسكري عن الخدمة. وهو أمر لم يقم به الأميركيون حين قصفوا مطار الشعيرات.
إلاّ أنّ أردوغان يواجه في الوقت ذاته معضلة إقامة المنطقة الآمنة وتمويل إعادة النازحين إليها بسبب امتناع أوروبا عن هذا التمويل وعدم حماسة موسكو لها. فهل تقتصر قمة بوتين أردوغان الخميس على التهدئة أم تناقش حلاً يشمل وضع الشمال السوري؟