عقب محاولة الانقلاب الشهيرة على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في منتصف شهر يوليو (تموز) 2016، سارع النظام الإيراني إلى الإعلان بوضوح عن دعمه للسلطة الشرعية في أنقرة. آنذاك، ألمحت شخصيات إيرانية عدّة إلى أن قائد فيلق القدس قاسم سليماني كان صاحب الاقتراح، في إتصال هاتفي مع أردوغان، بدعوة الجماهير التركية إلى النزول للشارع في مواجهة الحركة الانقلابية.
وبغض النظر عن دقة هذه الرواية، فإن تقديم أردوغان العزاء للمرشد الأعلى في إيران بعد اغتيال سليماني ووصفه بـ"الشهيد"، لا يمكن بأي حال تصنيفه فعلاً دبلوماسياً، بل هو انعكاس لعلاقة مباشرة بين الرئيس التركي والجنرال الإيراني، عززها وقوف طهران إلى جانب النظام التركي في لحظة تخلّى عنه فيها معظم حلفائه، وفي مقدمهم الولايات المتحدة.
مع إطلاقه عملية "درع الربيع" في الشمال السوري، يبدو أن أردوغان وضع نفسه في مواجهة محتملة مع روسيا وإيران، أو فلنقل مع المجموعات الموالية لهما بالحد الأدنى، وهو ما يعكسه بوضوح أخيراً بيان "المركز الاستشاري الإيراني في سوريا" الذي دعا القوات التركية الى التصرف "بعقلانية".
وفي غضون أسبوع واحد، دفع أردوغان بعلاقاته مع روسيا إلى حدود التوتر، وحاول ابتزاز أوروبا عبر دفع اللاجئين السوريين إلى الحدود معها، ثم قفز فوق جميع خلافاته مع الولايات المتحدة، طالباً منها العون العسكري، فلم يلقَ حاجته.
ما الذي يريده أردوغان؟ وما الذي يسعى إلى تحقيقه في ظل عجزه عن الذهاب إلى مواجهة عسكرية شاملة في سوريا؟
الإجابة عن هذا السؤال تتطلّب قراءة السياق السابق المحيط بتركيا في الأعوام الثلاثة الماضية.
المناورة بين واشنطن وموسكو
بدأ التوتر التركي الأميركي على خلفية دعم واشنطن للفصائل الكردية، حين قررت الولايات المتحدة في نهاية عهد الرئيس باراك أوباما تزويد فصائل سورية مسلحة بصواريخ مضادة للطيران محمولة على الكتف. وعلى الفور، أبدت أنقرة انزعاجها من التوجه الأميركي مدفوعة أيضاً بما اعتبرته تقصيراً من التحالف الدولي في تقديم المساعدة في معركة "الباب"، ثم أطلقت موقفاً تهديدياً بأنها ستدرس مسألة استخدام التحالف الدولي وحلف شمال الأطلسي لقاعدة "انجرليك".
وعلى إثر هذا التصعيد، حلّقت طائرات التحالف الدولي فوق الشمال السوري من دون أن تشارك في قصف أهداف "درع الفرات" التركية. وكان واضحاً أن الولايات المتحدة تريد أن تعيد أردوغان إلى بيت الطاعة في ذروة معركته السورية، وشكّلت تلك التجربة المفصل في بدء استدارة الرئيس التركي نحو روسيا، بعدما هيّأ الجو الداخلي بإقصاء قيادات حزب "العدالة والتنمية" الحاكم.
ثم وقع اغتيال السفير الروسي ليلة رأس السنة في اسطنبول ليسدّد ضربة موجعة للأمن السياسي في تركيا. وبدا واضحاً أن سياسة أنقرة التي قامت على شعار "صفر مشاكل" في العقد الأول من القرن الـ 21 باتت تترنّح تحت وطأة اصطدام أردوغان بالحليف الأميركي وعدم قدرتها على تنفيذ استدارة كاملة نحو روسيا. وما بين هاتين المعضلتين، ابتعدت تركيا أكثر عن غالبية الدول العربية والخليجية.
ومع وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، لم تُحرز العلاقة بين واشنطن وأنقرة تقدماً يُذكر، وسط تركيز الرئيس الأميركي على قتال "داعش" عبر الحلفاء لا قواته.
في المقابل، تحافظ العلاقة التركية الروسية على موقعها المراعي للكثير من الحسابات والحساسيات، بما يمنع تحوّل موسكو إلى بديل عن واشنطن. وفي طليعة هذه الحسابات، ما تركز عليه دراسات وتقارير إسرائيلية تتناول الدور الروسي في سوريا. على سبيل المثال، يعتبر تقرير صادر عن جامعة "حيفا" حول الأسلمة أن النمو الاقتصادي والعسكري لجيران روسيا يرسمان سياستها إزاء هؤلاء الجيران، وفي طليعتهم تركيا. بمعنى آخر، تُقارِب روسيا علاقتها مع جيرانها المسلمين من منطلق قلق وحذر، مهما التقت المصالح السياسية.
مصلحة استراتيجية مع إيران... ولكن!
وعلى الرغم من الاختلاف الجذري في رؤيتيهما حول سوريا، ظلّت العلاقة التركية الإيرانية تحافظ على استقرار ملحوظ ترسمه المصالح المتبادلة، وفي مقدمها "المسألة الكردية" والملف العراقي والتسوية السياسية المنشودة في سوريا، فضلاً عن اشتراك الدولتين في علاقات "غير ودّية" مع السعودية والإمارات ومصر. وقبل كل ذلك، تحتاج طهران وأنقرة إلى بعضيهما في التبادل الاقتصادي، في ظل عجز تركيا عن دخول السوق الأوروبية والعقوبات المفروضة على إيران، ويمكن القول إن مساحة التوافق بين تركيا وإيران هي الأوسع والأكبر، حتى وإن كان تنافسهما الجيوستراتيجي أمراً مفروغاً منه في سوريا.
حدث إضافي يدفع إلى التقارب التركي الإيراني
من ناحية أخرى، أعلنت سبعة أطراف هي مصر وقبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية نيتها تأسيس "منتدى غاز الشرق الأوسط"، ورأت أنقرة في المنتدى خطوة عدائية تستهدف مصالحها مباشرة، فقررت التنقيب عن الغاز حول قبرص وتعديل خططها السابقة بالبحث عن موارد الطاقة في البحر الأسود. فالمنتدى المذكور يطمح إلى توزيع ثروات المتوسط من دون الأخذ بالاعتبار مصالح لاعبين أساسيين في المنطقة، ومنهم تركيا، وبناءً على ما تقدم، تجد تركيا نفسها مُلزمة بالحفاظ على علاقة جيدة مع إيران.
بل يمكن القول إن إستثناء لبنان وسوريا وتركيا وقطر من "منتدى غاز الشرق الأوسط" يدفع بشكل تلقائي هذه الدول إلى ترميم علاقاتها في المدى المنظور، برعاية روسية ودعم إيراني.
وفي حين تكرّر أنقرة مواقفها التهديدية إزاء أزمة أخرى بالتلويح باستخدام القوة العسكرية لمنع السفن من التنقيب عن الغاز قبالة سواحل اليونان، فإن ابتعاد أردوغان عن تحالفاته الخاضعة للدائرة الأميركية يستلزم منه تعزيز علاقاته مع المحور المقابل، وهنا مكمن القصيد في خطوته الناقصة في الشمال السوري هذه الأيام.
اعتاد أردوغان على رفع الصوت عالياً عندما يستشعر نيلاً من مصالحه، لكنه هذه المرة لا يمتلك ترف الصراخ كثيراً، بعدما خسر جزءًا كبيراً من رصيده مع معظم الأطراف المتحاربة. خسارة يختصرها وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه يعالون في أحد تقاريره الصادرة في معهد الأمن القومي بتل أبيب بدعوته إلى "تقليم أظافر" أردوغان كي "لا يتجرأ مرة أخرى على تجاوز الخطوط الحمراء في سوريا".