تسير تطورات الأوضاع في السودان بخطى حثيثة نحو العسكرة، بعدما شكلت أوامر الطوارئ الخمسة التي أصدرها الرئيس عمر البشير الإثنين 25 فبراير (شباط) بداية المواجهة بين الحكومة والمحتجين من جهة، وبين "المفسِدين" في الجهاز التنفيذي والمصلحين الجدد من جهة أخرى.
وسادت حالة من الترقب خلال نهار الثلاثاء شوارع العاصمة الخرطوم، التي لا تكاد تخلو من آثار إطارات محروقة خلّفها المحتجون، إضافة إلى المتاريس الموضوعة في شوارع الأحياء الداخلية. وكانت بادية ملامح التوجس والقلق في وجوه الجنود المتجولين على متن سياراتهم المكشوفة على الطرقات الرئيسة، أو المتوقفين أمام مداخل الأحياء. أما السؤال الكبير الذي خلّفته تلك القرارات هو "هل تُقبِل الحكومة على تطبيق تلك القرارات بصرامة أم سينجح المحتجون في تجاوزها؟"
أطباء وصيادلة يكسرون "الطوارئ"
في اليوم الأول لتطبيق أوامر الطوارئ، نفذ أطباء وصيادلة، إضافة إلى عاملين في شركات اتصالات، وقفات احتجاجية منددة بتدهور الأوضاع الاقتصادية ومطالِبة بتنحي الرئيس.
وبموجب الأوامر الصادرة، منح رئيس الجمهورية حصانات لأفراد لم يذكرهم، كما حظر التجمهر والتجمّع والمواكب والاضرابات وتعطيل المرافق العامة، وتنظيم التعامل بالنقد الأجنبي. وتستند هذه القرارات إلى قانون الطوارئ الذي فرضه يوم الجمعة الماضي، لمدة سنة، عقب استمرار الاحتجاجات الشعبية المطالِبة برحيله منذ 19 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
ونصّ أمر الطوارئ على حظر إغلاق الطرق العامة وإعاقة الحركة، وكذلك حظر التقليل من هيبة الدولة ورموز سيادتها بأي وسيلة، وإقامة الندوات والتجمعات والفعاليات وإعداد أو نشر أو تداول الأخبار التي تضرّ الدولة أو المواطنين أو تدعو إلى تقويض النظام الدستوري القائم. وطبقاً للقرار، فإن المخالفين سيُعاقبون بالسجن مدة قد تصل إلى 10 سنوات، وغرامة مالية.
تدابير غير دستورية
في المقابل، اعتبر "تجمع المهنيين السودانيين" وثلاثة تحالفات معارِضة في بيان أن "إعلان حالة الطوارئ تدابير غير دستورية لأنه لا يوجد خطر طارئ يهدد البلاد أو جزء منها، وإنما الخطر الماثل يهدد بقاء النظام ورئيسه وذلك بالمطالب المشروعة للشعب وقواه الحية بتنحي النظام عبر التظاهر السلمي"، ووصفت الإعلان بأنه "فقاعة صابون".
واعتبر تلك القرارات "مخالفة لوثيقة الحقوق في الدستور وتفتقد الشرعية القانونية والدستورية في مجملها، وتحديداً حظر التجمهر والتجمع والمواكب السلمية والإضراب وتكوين المحاكم الخاصة واعتقال الأشخاص وتجريم النشر وحق الوصول للمعلومات".
بدوره أبدى المحلل السياسي أنور سليمان استغرابه "من المشغولين بالإجراءات الجديدة، لأن السودان لم يكن بلد قانون منذ وصول الرئيس عمر البشير إلى الحكم منذ العام 1989، ولن تتمكن تلك القوانين من مكافحة التظاهرات لأن الاحتجاجات لم تتوقف على الرغم من سقوط نحو 25 قتيلاً". واعتبر سليمان أن "لا وجود للقانون أو الدستور والكلمة للنافذين في الدولة فقط، وكل ما صدر لا يعدو كونه حبراً على ورق".
اجهاض الحوار
في المقابل، يقول القيادي في حزب المؤتمر الشعبي، المشارك في الحكومة، أبو بكر عبد الرازق إن حزبه عارض فرض تلك القرارات عندما عُرضت عليه، واعتبر أنها إطلاق يد السلطة "وذلك في ذاته أكبر أنواع الفساد، كما أن تلك القرارات جعلت السلطة في أيدي أفراد متعددين غير قادرين على ممارستها بشكل منضبط ولا وفق خطوات يمكن مراقبتها".
وأشار عبد الرازق إلى أن إجراءات الطوارئ تلك "ستُخصم من رصيد السودان في ملف حقوق الإنسان لدى المجتمع الدولي، لأنها تؤسس لقضاء لا يتيح للأشخاص أن يخضعوا فيه لمحاكمة عادلة تمكّنهم من الدفاع عن أنفسهم".
ونوّه بأن "الأوامر الصادرة الخميس تتناقض مع خطاب رئيس الجمهورية الذي ألقاه يوم الجمعة ودعا فيه إلى الحوار، لأن فرضها تم من دون توافق، وبالتالي تشكّل إجهاضاً للحوار الوطني وتدخل البلاد إلى ساحة من التوتر والاحتقان".
وربط عبد الرازق مشاركة "المؤتمر الشعبي" في الحكومة مستقبلاً "بوقائع تطبيق تلك القرارات".
الحكومة تمضي في قراراتها
من جهته، أصدر البشير، الثلاثاء، مراسيم جمهورية أدخلت تعديلات إلى هيئة قيادة القوات المسلحة، وعيّن الفريق أول عصام الدين مبارك وزيراً للدولة لشؤون وزارة الدفاع، والفريق أول ركن برهان عبد الفتاح مفتشاً عاماً للقوات المسلحة، وأبقى على الفريق أول كمال عبد المعروف في منصبه رئيساً للأركان المشتركة.
وأصدر رئيس القضاء السوداني عبد المجيد إدريس "قراراً قضى بتشكيل محاكم طوارئ من الدرجتين الابتدائية والاستئنافية بكل ولايات السودان". وتختص المحاكم المشكَّلة بمحاكمة المتهمين بمخالفة أحكام القانون الجنائي وقانون الطوارئ وأوامر الطوارئ الصادرة من رئيس الجمهورية.
كذلك أصدر النائب العام السوداني عمر محمد أحمد. قراراً قضى بتأسيس نيابات الطوارئ في كل ولايات البلاد الـ18. ويأتي القرار بعد إصدار أمر طارئ "أجاز اعتقال المشتبه في اشتراكهم في جريمة تتصل بالطوارئ وتفويض القوات النظامية بدخول المباني وتفتيشها".
ارتباك حركة السوق الموازية
في غضون ذلك، توقف أغلب المتعاملين في سوق المعاملات المالية الموازية "السوداء" في الخرطوم عن العمل. وقال عدد من تجار العملة إنهم أوقفوا نشاطهم موقّتاً حتى قراءة المشهد بعد قرارات الطوارئ، وأبدى بعضهم مخاوف منها ومن تأثيرها في حركة صغار التجار الذين يعتمدون بشكل أساسي عليهم في توفير النقد الأجنبي لتجارتهم.
في المقابل، قلّل آخرون من تلك الإجراءات، وقالوا إنها "ستستمر وقتاً قصيراً قبل أن تعود الأوضاع إلى طبيعتها". وقال أحد تجار العملة إن "الحكومة لن تستطيع تطبيق إجراءاتها لأن أكبر مَن يتداولون في تلك السوق هم المسؤولون والشركات الحكومية، وتطبيقها يعني تعسرهم نظراً لصعوبة إجراء التحويلات المصرفية المرتبطة بالعقوبات الأميركية المفروضة على البلاد منذ العام 1993".
قلق دولي من "عسكرة الحكومة"
وأعربت دول الترويكا (المملكة المتحدة والولايات المتحدة والنرويج) عن "القلق العميق من القرارات التي اتخذها البشير بإعلان حالة الطوارئ وتعيين 18 من العسكريين والأمنيين في مناصب حكومية عليا".
وجاء في بيان صادر عن الدول الثلاث أن "الإجراءات تمهّد إلى العودة إلى الحكم العسكري ولا تخلق بيئة مواتية لتجديد الحوار السياسي وإجراء انتخابات ذات صدقية".
وذكرت "دول الترويكا" أن لديها "تقارير تؤكد استخدام الرصاص الحي من قبل القوات النظامية تجاه المحتجين في السودان". وأضافت "لا تزال هناك حاجة واضحة إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل في السودان، الأمر الذي يدعو إلى معالجة المظالم المشروعة التي أعرب عنها المحتجون. ولا يمكن تحقيق الاستقرار الاقتصادي من دون التوصل إلى توافق سياسي أولاَ. ولا يمكن تحقيق توافق سياسي بسجن وإطلاق النار وتجريم المحتجين السلميين".
وأعلنت الدول الثلاث أنها "ستستمر في رصد الوضع، وأن التعامل مع الاحتجاجات وممارسات الحكومة العسكرية الجديدة ستحدد طريقة التعامل في المستقبل مع السودان".
ويشهد السودان منذ 19 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، احتجاجات متواصلة في معظم مدنه، هي الأكبر منذ وصول البشير إلى السلطة، وأسفرت عن سقوط 32 قتيلاً وفق آخر إحصاء حكومي، و51 قتيلاً وفق "منظمة العفو الدولية".