لبنان الذي ما فتئ اللبنانيون يحاولون جعله بلداً لهم جميعاً على اختلافهم، جميل بطبيعته الساحرة وبفصوله الأربعة وبقرب بحره من جبله، وبصغر مساحته التي تمكّن زائريه أو مواطنيه من اكتشافه كلّه في مدة زمنية قصيرة.
قد يبدو هذا الوصف مستلاً من الكتب المدرسية، وهو كذلك، لكنه حقيقي لا تشوبه مبالغة.
في السنوات الماضية، ظهرت مجموعات للمشي في أرجاء لبنان. بعض هذه المجموعات تتألف من أصدقاء اتفقوا على المشي أسبوعياً في منطقة جديدة، في رحلات من تنظيم شركات أو جمعيات تدعو الراغبين في المشي إلى الالتحاق بها مقابل بدل صغير. وهذا ما يسمح بالتعارف بين أشخاص من مناطق وطوائف وطبقات مختلفة، ويوفر لهؤلاء فرصة التعرّف إلى "اللبنان" الذي صنعته مخيلة الكتب المدرسية ومسرحيات الرحابنة وأشعار سعيد عقل، ثم والأهم، يمارسون رياضة المشي التي وصفها الأطباء للتداوي من القلق والتوتر والاكتئاب. وهذا ما يحتاج إليه اللبنانيون بسبب ما مرّ ويمرّ عليهم من مآسٍ ومصاعب، جعلت من لبنان أحد البلدان التي تُباع فيها المهدئات بشكل مرتفع.
في رحاب الطبيعة
إذاً، من المفيد للبنانيين التنزّه في الطبيعة، أو المشي في جبال لبنان الجميلة التي ما زال بعضها أخضر نتيجة جهود حمايتها. وقد بات هناك عدد من المحميات، منها محمية مستنقع عمّيق في البقاع ومحمية أرز الشوف في أعالي جبل لبنان ومحمية إهدن ومحمية جبل موسى في منطقة كسروان ومحمية الغابة السوداء في منطقة عكار، ومحمية أرز بشري ومحمية الناقورة في الجنوب. وهذا يُظهر انتشار المحميات على مختلف الأراضي اللبناية.
ويبدو أن عدداً كبيراً من اللبنانيين عرف فائدة الخروج من المدن المكتظة التي تقع فيها المشاكل الأمنية على اختلافها، نحو الهضاب والجبال البعيدة التي تشكّل السلسلتين الشرقية والغربية، وبينهما سهل البقاع الممتد من أقصى الشمال اللبناني إلى جنوبه. ولهذا، ارتفع عدد المجموعات المؤلفة من هواة رياضة المشي باتوا يقومون برحلات أسبوعية. وكثرت المؤسسات أو الأندية التي تنقل هؤلاء إلى الجبال والتلال والمحميات مقابل أجور ضئيلة. وغالباً ما تضم هذه الأندية عدداً من المختصين بمواضيع النباتات أو الصخور أو الأشجار، فيصير المشي أكثر من رياضة بدنية، بل رياضة تثقيفية توعوية.
وفي حال المشي مع ناد متخصص، فإن كلفة الرحلة تراوح ما بين 10 و30 دولاراً، مقابل النقل وغداء أو فطور. ومن بين الجمعيات والأندية التي باتت معروفة على مستوى هواة رياضة المشي في الطبيعة، برزت جمعية "دروب لبنان" و"ياالله نمشي" و"الأفق الأخضر" وLiban Trek و"بلدتي" وغيرها. وقد تمكنت هذه الأندية من جذب عدد كبير من الأصدقاء عبر صفحاتها على شبكة الإنترنت وفي مواقع التواصل الاجتماعي، ما يدل على الاهتمام الذي باتت تلقاه هذه الهواية أو الرياضة.
لبنانيون يتعرفون على بلدهم
انتشار رياضة المشي يدفع اللبنانيين إلى التعرّف إلى بلدهم الصغير، الذي وعلى الرغم من صغر مساحته، يجهل عدد كبير منهم المواقع الأثرية المنتشرة في مناطقه، وهي مواقع مشهورة كآثار بعلبك وجبيل وصور. ففي لبنان، تنتشر مئات المواقع الأثرية غير المعتنى بها في خراجات القرى والبلدات الجبلية.
ويساعد هذا النوع من الرياضة في تعرّف اللبنانيين على ثقافات محلية مختلفة، منها الملابس الفولكلورية والموسيقى المحلية والطرب وأنواع الطعام التي تختلف من منطقة إلى أخرى. وهاوي رياضة المشي المداوم و"الحشري" سينتبه بعد مدة إلى أن هذا البلد الصغير يضم تنويعة ثقافية شعبية واسعة، فاختلاف العادات والتقاليد في القرى والبلدات اللبنانية يجعلها سبباً للفضول ومزيد من المعرفة. فقرى جرود الهرمل في البقاع الشمالي، تختلف في عمرانها وعادات أهلها وأنواع طعامهم عن قرى جرود جبيل في وسط جبل لبنان. وهذه بدورها تختلف عن تلك التي في جنوب لبنان. لذا، يُفاجأ كثيرون من هذا التنوّع الثقافي في الداخل اللبناني، الذي جعلته المركزية الإدارية في لبنان نسياً منسياً، بل وحوّلت لبنان بأكمله إلى الشريط الساحلي الضيق الممتد من الناقورة جنوباً إلى طرابلس شمالاً، جاعلةً من بلدات الداخل ومدنها وكأنها في بلاد أخرى بعيدة.
مواقع تحوّلت إلى محميات
من المواقع التي يهتم سياح رياضة المشي بزيارتها، مستنقعات عمّيق التي تقع في البقاع الغربي، وهي من أكثر الأراضي الرطبة في لبنان غنىً بالتنوع البيولوجي، وتضم حقولاً خصبة من البقاع الغربي، وتلالاً صخرية وعشبية، وغابات غنية بالبلوط التي تصل إلى مرتفعات الباروك. وما زالت قرية عمّيق تحافظ على ملامحها القديمة وتذكّر بالريف اللبناني قبل أن يجتاحه العمران الحديث. وتصنّف المستنقعات كموقع مهم للطيور المهاجرة التي ترتاح فيها خلال هجرتها في المنطقة وهي جزء من محمية اليونيسكو "الإنسان والمحيط الحيوي" لجبل الشوف، وتمارَس في هذه المستنقعات هواية "مشاهدة" watching الطيور البرية المهاجرة التي تمرّ في لبنان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهناك محمية أرز الشوف، وهي من أوسع المحميات الطبيعية في لبنان، تمتد من ضهر البيدر في الشمال إلى جبل نيحا في الجنوب. مغطاة بغابات البلوط على المنحدرات الشمالية الشرقية، وغابات العرعر والبلوط على المنحدرات الجنوبية الشرقية. من أكثر عوامل الجذب السياحي في المحمية غابات الأرز الثلاث: معاصر الشوف والباروك وعين زحلتا- بمهري. وتمثل هذه الغابات ربع ما تبقى من غابات الأرز في لبنان، فيما يُقدّر عمر بعض الأشجار بـ 2500 سنة.
وتنضم إلى المحميتين الآنفتين محمية هي من بين الأكثر جمالاً في لبنان، وهي محمية جبل موسى في منطقة كسروان الفتوح، وتُعتبر إحدى محميات المدى الحيوي الثلاث الموجودة في لبنان والـ24 الموجودة في الشرق الأوسط. إنّ محمية المدى الحيوي في جبل موسى، المشرفة على غرب البحر الأبيض المتوسط، تشكّل فسيفساء من الأنظمة البيئية. تمتاز هذه المحمية الطبيعية بتنوعها البيولوجي، فهي تحتوي على 215 نوعاً من الشتول المختلفة، وعلى 20 نوعاً من الأشجار، ومنها 11 نوعاً من الأشجار النادرة. وقد اكتشف أكثر من 16 نوعاً من الثديات، ومنها الضبع والذئب والطبسون. وصُنفت منطقة عالمية للطيور (Global Important Bird Area)، نظراً إلى الطيور المهاجرة التي تعبر فوقها خلال الخريف والربيع.
عدّدنا هذه المحميات كأمثلة عن مناطق كثيرة، تمكن فيها ممارسة هواية المشي في لبنان، وتحديداً في المناطق التي يُزرع فيها التفاح والكرز على سفوح سلسلة جبال لبنان الغربية جهة تنورين وبسكنتا وحمانا. ثم هناك غابات عكار "العذراء" أو "السوداء"، وهناك جرود الهرمل في البقاع الشمالي.
يبدو أن المشي في الطبيعة يعرّف اللبنانيين على بلدهم وعلى بعضهم البعض، في وقت يبدو أنه يصل متأخراً. لكن، أن يصل زمن التعارف بين اللبنانيين عبر هواية أو رياضة تهدف إلى الحفاظ على الطبيعة المهدّدة في لبنان، خيراً من أن لا يصل أبداً.