يقف عالم الأدب العربيّ اليوم عاجزاً أمام دوّامة الإنتاج الروائيّ الساحقة، دوّامة تعصف بالكتّاب العرب وتدفعهم نحو شاطئ الرواية وحده. شعراء وصحافيّون وكتّاب من مختلف المجالات ومن مختلف الدول العربيّة يكتبون الرواية ويقرعون باب هذا الفنّ الأدبيّ الحديث عموماً عند العرب. فقد بدأ العرب يمارسون حرفة السرد بتقنيّاتها الروائيّة الغربيّة المتعارف عليها منذ ما يناهز المئة عامٍ فقط، مديرين ظهورهم للفنون الأدبيّة الأخرى كالشعر والقصّة القصيرة وغيرهما. ويظهر جنديّ كويتيّ ما زال متمسّكاً بشراع القصّة القصيرة وما زال يحرص على تقنيّاتها وحبالها، جنديّ طرق أبواب الرواية لكنّه أيضاً مال إلى القصّة القصيرة وعُني بشؤونها: طالب الرفاعي، رئيس جائزة الملتقى للقصّة القصيرة العربيّة، كاتب وناقد وقاصّ كويتيّ أصدر أخيراً مجموعته القصصيّة بعنوان "رمادي داكن" (دار الشروق) وهي مجموعته التاسعة، ليكون بذلك من القلّة القليلة التي ما زالت تنتج القصّة القصيرة وما زالت متعلّقة بها بهذه الرصانة.
خمس وعشرون قصّة قصيرة يقدم فيها الرفاعي أعمالاً قائمة على "وعي وموقف متجدّدَيْن من قضايا الإنسان والواقع والإبداع". فتتراوح النصوص بين مواضيع تدور حول المرأة وهمومها والظلم والتعسّف اللاحقَيْن بها، إضافةً إلى مواضيع الفساد الإداري ونظام الوساطات الذي يرفع أحداً ويخفض آخر بشكل اعتباطي، وقصص خبث الأصدقاء ونفاقهم في أحايين كثيرة وزيف العلاقات الاجتماعية القائمة، عدا عن القصص المتعلّقة بالمشاكل اليوميّة التي تحدث في عقر الحياة الزوجيّة، ومن دون نسيان أحوال البدون طبعاً الذين طالما توقّف الرفاعي عند قضاياهم وهمومهم.
وتنضوي هذه القصص تحت عنوان "رمادي داكن" برزانة وتماسك. فالرمادي الداكن الذي يرمز عموماً إلى الاكتئاب والحزن وغياب الأفق، هو لون حاضر بكثافة وصَخَب في قصص الرفاعي. نوع من اللاأمل واللامخرج، محاولة لبلوغ الأسود أو الأبيض أو أيّ لون آخر إنّما عبثاً. والرمادي الداكن هو لون كلّ شخصيّة متخبّطة في نزاعاتها وهمومها وأساليب القهر التي يفرضها عليها محيطها، هو لون نساء الرفاعي ورجاله الذين يحاولون بلوغ شاطئ الأمان والاستقرار من دون أن يتمكّنوا من الفرار من هذا اللون الذي يشكّل في الوقت ذاته لعنة وختماً لا مفرّ منه.
المرأة المساوِمة
يقدّم الرفاعي نماذج مختلفة عن المرأة الكويتيّة في إطار توقّفه عند العلاقات الزوجيّة اليوميّة. ويقع القارئ على نموذجين من النساء. فهناك من ناحية، المرأة المقهورة أو المعذّبة أو المضطّهدة التي تحايل وتجاهد لتنال شيئاً من أصغر حقوقها، وهناك المرأة المرفّهة التي تلقي بأعباء بيتها وأبنائها على خادمتها. ويختار الرفاعي أن يفتتح مجموعته بالتوقّف عند المرأة المقهورة التي تخرج من تحت سيطرة والدها لتقع تحت نير ظلم زوجها، امرأة طموح تدأب على التعلّم والتثقّف والتحرّر بينما مجتمعها الذكوريّ في المقابل يبني أمامها الحواجز والعقبات ويحاول حجبها عن الحياة والحريّة والتقدّم.
وقد تكون قصّة "وضحى" من أكثر القصص مأساويّة التي يعاقب فيها الشقيق شقيقته بالضرب المبرح لمجرّد سماعه إشاعة تطالها. جوّ مشحون بالوجع والانغلاق يخلق في نفس القارئ الرغبة في التمرّد والإمساك بيد المراة والخروج بها من السجن المفروض عليها.
قصّة ثالثة تلفت القارئ بوطأتها وقتامتها هي قصّة "حذاء أسود" التي تتوقّف عند معاناة المرأة العاملة التي تقطّع نفسها لتتمكّن من القيام بشؤون بيتها وأولادها وزوجها وعملها من دون تقصير، امرأة ترزح تحت أعباء كثيرة لا بدّ من أن تحملها بمفردها لتنجح وتحقّق ذاتها، بينما زوجها يعيش براحة وطمأنينة ويدخّن سيجارته وكأنّه يملك وقت العالم كلّه.
نساء محرومات، مظلومات، معنّفات، عالقات في سجون ذهبيّة مخفيّة على العيون ومتزيّنة بأغلال الحياة الزوجيّة التي لم تنصف المرأة العربيّة يوماً لا اجتماعيّاً ولا فكريّاً ولا عمليّاً ولا دينيّاً.
علاقات اجتماعيّة مزيّفة
يظهر للقارئ قلق الرفاعي من الصديق الخبيث المنافق، كما يظهر له توقّف الكاتب عند الزيف الاجتماعي الذي يؤطّر العلاقات أكانت علاقات صداقة أو علاقات عمل. فلا يمكن للقارئ إلاّ أن ينفر من "عبد الهادي" في القصة الثالثة والعشرين بقدرته الهائلة على النفاق وتلفيق الأخبار وإيقاع المحيطين به بمشاكل جلّة وذلك كله عن عمد. وكذلك لا يمكن غضّ الطرف عن شخصيّة "محيسن" في القصّة الثالثة عشر، "محيسن" بطباعه المثيرة للغثيان والاشمئزاز الذي لا يمكن للقارئ أن يحتمله بسبب تصرّفاتها التي تنمّ عن نفاق وجبن.
إنّما يبقى الموضوع الأهمّ على صعيد العلاقات الاجتماعية هو المحسوبيّات والوساطات والفساد الإداري المستشري في الكويت، وفي أيّة دولة عربيّة عموماً، وضع شائن يسمح بتعيين مدير غير كفؤ مكان آخر متمتّع بخبرة ومهارة، لمجرّد صداقة وعلاقة اجتماعية أو علاقة قربى. نوع جديد من النفاق العملي القائم على تفضيل القريب على الغريب وإن كان القريب غير مؤهّل وغير جدير بالترقية أو بالمنصب المتنازع عليه.
ويبقى الزواج أحد أكثر العلاقات الاجتماعية زيفاً، فعدد كبير من القصص القصيرة مُنتشل من مواقف يوميّة تحدث في حياة الثنائي، أيّ ثنائي. مواقف تُظهر كم أنّ الحياة الزوجيّة صعبة وكم هو صعب فهم الآخر والأخذ برأيه أو بوجهة نظره في أبسط الأمور وأسخفها. وبينما تتراوح القصص بين وجهة نظر الرجل ووجهة نظر المرأة، كذلك تظهر مسألة الطلاق بوجهَيْها، فالرجل يطلّق ويتزوّج كما يحلو له (القصّة 21: "رجل")، بينما نرى المجتمع يعاقب المرأة والمطلّقة وينظر إليها وكأنّها متاحة لأيّة نظرة أو كلمة أو موقف (القصّة 9: "صورتان").
لعبة ضمائر
لا يمكن لقارئ الرفاعي أن يغفل عن لعبة الضمائر والشخصيّات التي تعصف بهذه المجموعة القصصيّة والتي تمنح كلّ قصّة رونقها ومذاقها. فمن القصص ما هو مرويّ بضمير المتكلّم، ومنها ما هو مرويّ بضمير المخاطب أو المخاطبة ليتوجّه بها الكاتب إلى القارئ بشكل مباشر يمنعه من الشرود أو الخروج عن الجوّ العام للقصة. حيلة سرديّة تجبر القارئ على التفاعل مع القصّة والتعاطف مع شخصيّاتها والشعور بأنّه يشكّل جزءًا من عجلة أحداثها.
أمر آخر لا بدّ من التوقّف عنده في ما خصّ أسلوب القصص القصيرة هذه ألا وهو رذاذ الشاعريّة الذي يتغلغل في الجمل ويضفي على القصص شيئاً من اللايوميّة المتعارضة مع المواضيع والأحداث المنسوجة من واقع الحياة. واقع كويتي داكن يتعارض مع لغة جذلة تحاول خلق فُسح يتنفّس عبرها القارئ في ظلّ يوميّات داكنة قاتمة، فـ"رماديّ داكن" مجموعة طالب الرفاعي الجديدة، هي من دون شك مجموعة واقعيّة رماديّة داكنة تترك خلفها مذاق الرماد المتعب من طيلة السجن.