Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

على أي شيء ننفق نور أعيننا؟

يغوص كتاب "إنفاق الضوء" في التفاصيل المحيطة كهجين مبتكر من القص والسيرة ينسج لوحة الحياة الثرية في فقرات تكشف الروح ولا تهدر الكلمات أو المشاعر

لوحة بريشة رينيه ماغريت (متحف السوريالية)

نصح الشاعر الياباني القديم ماتسو باشو ذات يوم شاعراً شاباً فقال له، "اذهب إلى السنديانة إن أردت أن تعرف السنديانة، وإلى البامبو إن أردت معرفة البامبو. وفي ما تفعل ذلك، لا بد أن تطرح عنك انشغالك بنفسك، وإلا فإنك تفرض ذاتك على الشيء فلا تعرفه. سيتفجر شعرك طوعاً، حينما تصبح أنت والشيء واحداً، عندما تغوص فيه بالعمق الكافي فترى خبيئة تتلألأ داخله. ومهما حسن شعرك سبكاً، لو أن إحساسك غير طبيعي، لو بقيت والشيء منفصلين، فما شعرك بشعر حقيقي، وإن هو إلا زيف ذاتك".

مع أن هذه الكلمات محفورة في ذاكرتي منذ إن قرأتها قبل ربع قرن، فكلما احتجت إلى الاستشهاد بها، وجدتني أبحث عنها في غير ذاكرتي، فأفتش في ملفات قديمة أو أستسهل وألجأ إلى غوغل (مثلما فعلت قبل قليل)، ولا أبحث أبداً في ذاكرتي، أي نفسي، وكأنني موقن أنني ربما حفظت الدرس، لكنني لم أتعلمه بعد.

في العادة أتذكر هذه الكلمات حينما أقرأ قصائد مما يعرف في الأدبيات الأميركية بـ"قصيدة الشيء"، لكنني هذه المرة أتذكرها إذ أقرأ عن كتاب حديث الصدور للصحافية البريطانية لارا باوسن، وهي مراسلة حربية سابقة في هيئة الإذاعة البريطانية عملت في بعض مناطق العالم الملتهبة، وأصدرت بضع كتب أحدثها بعنوان "إنفاق الضوء"، ولعل العنوان مأخوذ من الشاعر الإنجليزي الكفيف جون ميلتن، فتكون الترجمة الأقرب إلى العنوان حينئذ هي "فقدان نور العين" أو فقدان البصر. باختصار، تنبئنا لارا باوسن في كتابها هذا علام بالضبط ننفق نور أعيننا، وبالأحرى نور عقولنا.

ليس سيرة صريحة

تكتب نياماً دونلي ضمن استعراضها للكتاب بصحيفة "فايننشال تايمز"، أول أمس الجمعة، أن "إنفاق الضوء" هو الكتاب الثالث للناقدة والكاتبة لارا باوسن، "وهو يتحاشى الوقوع ضمن الأنواع والبناءات السردية المألوفة. فهو ليس سيرة صريحة، شأن كتابها السابق الذي صدر في 2016 بعنوان (ها هنا مكان تكونين فيه)، على رغم أن الاثنين يشتركان في بعض السمات الأسلوبية. وهو أيضاً ليس بعمل صحافي، على رغم أن باوسن سبق أن عملت مراسلة صحافية في أماكن مثل أنغولا وكوت ديفوار ومالي وغانا، بل إنه يندرج ضمن فئات القص والسيرة والتاريخ، فهو إلى حد ما يقع بين فئات متداخلة ومتعارضة".

ولكن ما طبيعة هذا الكتاب حقاً؟ تقول دونلي إن "في صفحاته فقرات شذرية تمضي بنا عبر قائمة من الأشياء الموجودة في منزل راوية غير معرفة بالاسم. هناك المحمصة (التوستر)، ومطحنة الفلفل، والدبابيس، وقشر البطيخ، ومغنطيسات الثلاجة، ونسخة من صحيفة فايننشال تايمز، والكثير غير ذلك. والراوية (التي لا نعرف هل ينبغي أن نسميها باوسن، بخاصة أنهما في العمر نفسه ويبدو أن لهما تجارب متماثلة) تقدم قراءة دقيقة لهذه المقتنيات. فتتشكل صورة لحياتها وشخصيتها وفلسفاتها وصورة أيضاً للعالم الأوسع".

تضرب سارة موس في مقالها عن الكتاب نشرته بصحيفة "الغارديان"، أمس السبت، مثالاً لذلك بالمحمص، "في الصفحات الأولى تتلقى الراوية محمصة كانت تخص جارة توفيت... ثمة إضاءات تعلو أزرارها، تثير في الذهن صورة حلمة كلبة، أو (زناد رشاش أرماليت نصف الآلي) أو (اندفاعة لذة مبهمة إذ تقبض أصابعك على...)، وثمة ثلاث كلمات مكتوبة على المحمصة بمثل الخط المعتمد في وثائق الاستخبارات المركزية الأميركية".

وعن المحمصة نفسها تكتب نياما دونلي أن أزرارها تبدو "على شكل حبيبات من روث الفئران"، وأن على جانبها كلمات "تمثل موجزاً لعصر الأنثروبوسين (أي العصر الجيولوجي البشري)، وهي إعادة التسخين وإزالة التجميد وإلغاء".

 

 

يبدو أن كل ملاحظة للراوية تجعل من الشيء الذي تكتب عنه شيئاً جديداً أو تنبئنا بشيء عن العالم المحيط بهذا الشيء، وبنا أيضاً. فـ"الحاشية السوداء السميكة في المحمصة تذكر الراوية بامرأة رأتها مرتدية تنورة في حافلة، وسمعت منها حكاية عن مصارع ثيران أمر والدة تلك المرأة بشرب زيت الخروع لتحفيز المخاض، ثم قتل الطفل الوليد".

تصف باوسن "رائحة الغائط الذي تغوطته الأم، والصمت الذي حلَّ حلول المخمل الرخيم حينما غاص حجر في جمجمة الأخ اللينة". و"في كل مرة تقع فيها عينا الراوية على محمصتها، تتجدد الصدمة ما الذي كان يمكن أن يحدث لي فيجعلني على مثل ذلك القدر من القسوة؟".

لا تفكر باوسن في الأم الثكلى فقط أو الطفل القتيل أو حتى الأخت الباقية حاملة لتلك المأساة، وإنما تفكر في القاتل أيضاً، مصارع الثيران الذي أشرف على المخاض ثم باشر القتل، فكأنه منح الحياة والموت في لحظة واحدة!

وليس ذلك ذنب المحمصة أو أي محمصة، لكنه ما تحتمله المحمصة وأي محمصة من جراء جيرتها لنا، نحن الذين تختزن ذاكراتنا أمثال تلك المآسي ثم لا تكف عن إلصاقه بما حولنا من أشياء. وحسبكم أن تدركوا حجم إجرامنا في حق أغراضنا حين ترون ما في عقولكم من خيوط تربط عسفاً بين السكين أو المقص أو عقارب الساعة أو صوت الغراب أو بقعة في السجادة أو غير ذلك بعشرات ومئات من ذكرياتكم أنتم.

"تبين لنا باوسن كيف لأشياء في كل بيت أن تقود ساكنيه، إن شاءوا، إلى غزة وأنغولا وشمال إيرلندا وجنوب أفريقيا والعراق ووسط أوروبا، ولحظات فارقة في القرنين الـ20 والـ21".

تجربة في الحرب

تكتب نياما دونلي أن "باوسن سبق أن وصفت تجربة تغطيتها للحرب الأهلية في أنغولا... ولا يهتم الكتاب الحالي بالسيرة الذاتية على هذا النحو المباشر، لكنه ينظر إلى أشياء الحرب، من قبيل غرف الغاز والقنابل والبنادق، مرغماً القارئ على تأمل الآليات المصنوعة على أيدي البشر وكيف أنها تجسيد للقسوة".

"لعل الكتاب يطرح وسيلة لتشييئ الصدمة، بالمعنى الحرفي للتشييئ. ولعله يطرح سبيلاً إلى فهم الحياة والموت، وقسوة البشر ومعاناتهم. وفي الوقت نفسه ثمة أمل، فالكتاب أيضاً أقرب إلى قصة حب، إذ إن ثمة مخاطباً غير معرف الاسم، هو (أنت)، الذي ينتقل بنهاية الكتاب ليسكن في بيت الراوية".

فهل هذا "الأنت" شيء آخر ينضم إلى مخزن المقتنيات الذي يمثله بيت الراوية وكل بيت؟ فما الفارق حقاً بين كوب خزفي يروق لك في المتجر فتنقله إلى مطبخك، وشخص تغرم به فتنقله إلى غرفة نومك؟ الأخير كائن حي، بشري مثلك، له ذكريات وروح وميلاد وموت إلخ، ولكنه أيضاً للاستعمال، وللاستعمال الموقت، وهو أيضاً موضوع حوار صامت بينك وبين نفسك، وهو أيضاً يتحمل إسقاطات لا ناقة له فيها ولا جمل. وهو أيضاً بعض مما تنفق عليه نور عينيك.

في غرفة نومك الآن منبه بجوار السرير، وسرير وفرشاة ومرآة ومشجب وزوج ونعل خفيف عن يمين السرير ومثله عن يساره، وآجلاً أم عاجلاً، يختفي أحد النعلين ويبقى المنبه.

تكتب نياما دونلي أنه يصعب في بعض الأوقات أن نفهم أين بالضبط مركز كتاب (إنفاق الضوء) "غير أن للكتاب تأثيره بلا شك. فهو يستنفر في القارئ إحساساً بأن الواقع الذي يعرفه ما هو إلا هلوسته الشخصية، وسلسلة الروابط التي أقامها، وقد يعيد إقامتها وتخيلها إن هو أرجع النظر إليها من جديد".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تلتفت سارة موس التفاتة بارعة إلى عنوان الكتاب الفرعي وهو "كتاب)". فلو أن الدافع إلى تأليف "إنفاق الضوء" هو الأشياء، فالعنوان الفرعي تذكرة بأن الكتاب الذي يحمله القارئ بين يديه هو أيضاً من جملة الأشياء "هو شيء، لو أنكم لم تنتبهوا إلى ذلك". فما الذي يشعر به القارئ حينما ينتبه إلى أن العنوان الفرعي حول الكتاب إلى شيء؟ لعله يشعر أن قيمة سلبت من الكتاب، أنه اختزل، فلم يعد في موقع الحوار مع القارئ وإنما انحط إلى موقع الاستعمال.

"يكرس الكتاب نفسه عموماً" كما تكتب موس "للتفكير والنظر لا لإشاحة النظر... فكل شيء في حياة الراوية اليومية هو شبيه بشيء آخر أو تذكرة به أو تنبيه إلى استعمال كريه آخر له. فميقاتي سلق البيض يحمل العلامة التجارية التي يستعملها صناع القنابل في الجيش الجمهوري الإيرلندي، لذلك تجد الراوية في نفسها توقاً إلى "ضبطه وتثبيته أسفل سيارة جارنا... فيسمع فقط صوت العد التنازلي، فيعرف مذاق الإحساس بالخوف".

والغاز المشتعل أسفل طاسة البيض يذكرها بمحارق الجثث في معسكر أوشفيتز النازي ومسح الأرضية في منزلها الفيكتوري "ها هنا، وأنا على أطرافي الأربعة جميعاً، تغوص يداي في شقوق التاريخ" فتفكر في "العام الذي أعلن فيه الملك ليوبولد الثاني مرسوماً ملكياً باستقلال دولة الكونغو وتستحضر صورة لا تطاق ولا تنسى لصبيين كونغوليين بتر جنود بلجيكيون أيديهما للتو".

"وليست هذه استعارات أو تمثيلات، ولكنها روابط حقيقية، ووسائل تكون بها الأشياء شبكات حولنا" وتكشف عن أن "الثقافة المادية في إنجلترا تحتوي فعلياً على الدم، بكل معنى حرفي واستعاري، غير أننا في العادة نمر بذلك ولا نفكر فيه".

"ولا مفر في النهاية من أن تلتفت باوسن إلى هاتفها، فيذكر الراوية بهاتفها القديم الذي وقع وانكسر على طريق ريفي، في بلدة بجنوب الكونغو لا تتذكر اسمها، لكنها بلدة يقطع فيها الصغار الكوبالت من الصخر... ويولد الأطفال بسيقان تأبى أن تنفرد، ويغتصب الرجال البنات الصغيرات لاعتقادهم أن ممارسة الجنس مع العذارى تزيد من فرصهم في العثور على الكوبالت"، ثم يتبين بعد أن تعثر الراوية على هاتفها، أنها ما أرادته إلا لتستعمله في الكتابة لـ"أنت".

ثم وتخبره "بأنني آكل توتاً برياً بحجم البرقوق بجوار مصنع كينغسميل، وأنني أشاهد ثعلباً صغيراً ناعساً في العشب... وأن رجلاً ذا عمامة أرغوانية يرمي كرات الكريكيت إلى ابنته ذات السنوات التسع فتضربها مطيحة بها في الفضاء... وأن الكلب اصطاد للتو حمامة صغيرة بنفسجية تحتم عليَّ أن أنهي أمرها بيدي أمام راكب دراجة بدا غير معتاد على الموت... وأن نينا سيمون تغير سمت حياتي الفكرية والعاطفية... وأنني لم أعلم قط علم اليقين ما معنى أن يكون شخص امرأة... وأنني أريد قبل أن نشيخ أنا وأنت أن نتناول عقار (أل سي دي) في حديقة للتزلج على الألواح".

 

 

وتستمر هذه الجملة الطويلة لتمتد على مدار أكثر من أربع صفحات حتى تنتهي بقولها "وإنني أحبك، وإنني مشتاقة إليك، وإنني لا أطيق انتظار الرجوع إلى البيت"، لكن ثمة دماً على أرضية البيت، وجميع الأدوات المنزلية استعملها شخص ما في مكان ما بوصفها أدوات تعذيب. لأن الأشياء كلها تعلن لنا ما لا نريد أن نستمع إليه، وهي صادقة في ما تعلنه، صدق الحب في هذه الرسالة الغرامية.

قراءة جامحة

تكتب سارة موس أن قراءة "إنفاق الضوء" بلا شك "قراءة غير مريحة، لكنها قراءة جامحة، لكتابة جريئة تنبع من تفكير صاف تام الصفاء، وعلى رغم مما تتسبب فيه من إزعاج، على نحو مشبع ومقبض وعبثي في آن واحد، فهي في الآن نفسه كتابة كوميدية. كتابة عبقرية، مفتوحة العينين، مسيطرة تمام السيطرة على نثر جليل".

يصف أندرو كلارك في "أيريش تايمز"، أمس، "إنفاق الضوء" بأنه هجين مبتكر من القص والسيرة ينسج لوحة الحياة الثرية في فقرات تكشف الروح ولا تهدر الكلمات أو المشاعر. ويرى أن الناشر قد أحسن صنعاً حينما قدم الكتاب في إخراج يناسب مجموعة شعرية مرموقة (لا يتجاوز الكتاب 146 صفحة) تتنقل عبرها باوسن لـ"تأمل أشياء الحياة اليومية وتجاربها ملتقطة منها ما يتماس مع الجسدي والمحلي والعالمي ثم رجوعاً من جديد".

ويقول كلارك إن "ذلك السرد الشذري، المتاخم لتيار الوعي، يتماسك ليقدم طرحاً عميق التأثير، ناجماً عن تراكم لحظات الألم والجمال والتجلي التي تنعكس في مرايا أشياء الحياة اليومية من قبيل المرحاض والمحمصة والقنفذ وإظفر إصبع القدم. ومع تراكم الذكريات قد يشعر القارئ بأنه في نوع من الصدام مع فجاجتها، لولا أن هذه الصور الصارخة تجد ما يخففها، وهو الحب الذي يسري في السردية كلها"، ولا أحسب أن الحب المقصود هنا هو حب "أنت" وحده، وإنما هو حب لكل شيء أو امتنان للأشياء، سواء أنعشت في ذاكرتنا شيئاً أو أضاءت فينا عتمة أو عملت وحسب، بإخلاص، عملها الواضح المباشر.

والحق أنني في أحدث بحث لي عن كلام باشو الذي يتصدر هذه المقالة، وجدته متبوعاً بكلمات أخريات ينصح فيها الشاعر المبتدئ قائلاً "لا تسع إلى الشعراء الكبار، وإنما اسع سعيهم". فبدا لي بطريقة ما أن هذه هي نصيحة باشو للتعامل مع نصيحة باشو الأولى. فربما لا ينبغي أن نتوحد والشيء، صحيح أننا قد نجد متعة إن عرفنا كيف ترى المحمصة العالم، لكننا على يقين من أن هذا العالم لا تحكمه محمصة، ولم تخربه محمصة، ولن تنقذه محمصة، وأن طريقة باوسن في التعامل مع المحمصة ـ والأشياء جميعاً، لا تخلو من نفع حقيقي، أعني دعوتها إلى أن ننظر إلى الشيء فلا يلهينا عن كل ما يجب أن ننظر إليه، ونسبر غوره، ونفضح أمره.

العنوان: Spent Light

تأليف: Lara Pawson

الناشر: CB Editions

اقرأ المزيد

المزيد من كتب