Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من يملك صكوك النقاء والتخوين في حرب السودان؟

المجتمع السوداني بعد الحرب مختلف تماماً عما قبله

‏صورة من مخيم للنازحين في ولاية القضارف في السودان حيث تلقي الحرب بظلالها على واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث. (أ.ف.ب)‏

ملخص

يحفل التاريخ السياسي السوداني بعهود من التخوين وعادة ما يرتبط بالعنف السياسي والفساد والدعاية للنظام أو للأحزاب السياسية ضد خصومها، ولا يقتصر الأمر على إقناع الآخرين بقبول النظام أو الحزب المعين أو رفضه.

مع قيام انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018 في السودان، تفشت ظاهرة الاتهام بالتخوين لدى الزعماء السياسيين وسحب شهادات الوطنية من المختلفين سياسياً، واستمر فحص المواقف والنوايا خلال الفترة الانتقالية التي مرت بها مطبات كثيرة، فلم يسلم من يقف مع أحد شريكي الحكم بمكونيهما المدني والعسكري من تهم العمالة أو الانحياز لمصلحة شخصية. ووصلت الحال إلى أزمة طاولت مواقف المواطنين العاديين بعد اندلاع الحرب في السودان في أبريل (نيسان) 2023. وهذه الحملة يقودها ناشطون سياسيون ضد خصومهم، ويمكن أن يطلقها مواطنون ضد آخرين لمجرد إحساسهم بأنهم يقفون في المكان الصحيح.

 والظاهرة ليست حصراً على الواقع السياسي الحالي، وإنما يحفل التاريخ السياسي السوداني بعهود من التخوين، لم تسلم منه الثورة المهدية، وتصنيف الناس على أساس ولائهم للإمام محمد أحمد المهدي ومن هم ضده، وحملة لواء تهمة التخوين والحكم بها والمحاسبة الجائرة عليها خليفة المهدي، عبدالله التعايشي، ثم في عهد الاستعمار حين سيقت روايات كثيرة عن عملاء للمستعمر ومتواطئين معه. وفي عهد الحكومات الوطنية، كان التنافس الحزبي على أشده، فأطلقت الأحكام على المنافسين السياسيين، كما شاعت الظاهرة وسط إعلاميين وفنانين ومثقفين وغيرهم.  في السابق كانت الوسيلة هي الصحف ولكن بعد ولوج عالم الإنترنت ونسبة إلى النشاط الزائد في وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الاتهام بـ"التخوين" وتصفية الخصوم أسهل وأكثر فتكاً.

  وعادة ما يرتبط التخوين بالعنف السياسي والفساد والدعاية للنظام أو للأحزاب السياسية ضد خصومها، ولا يقتصر الأمر على إقناع الآخرين بقبول النظام أو الحزب المعين أو رفضه، وإنما أصبح "التخوين" يُستخدم مثل سلاح لتصفية الآخر المختلف عبر خطاب عاطفي يقف فيه الشعور بإعلاء الوطنية مقابل التنازل عن السيادة الوطنية، وفي الغالب لا توجد في هذا المزاد السياسي منطقة وسطى تتسم بالموضوعية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مكارثية سودانية

 قال الناشط السياسي فتح الرحمن الأمين "خلقت ظروف عدم الاستقرار والحرب في السودان حالاً ’مكارثية‘ وهي أن الجميع والقوى السياسية ضمناً يشككون في توجهات بعضهم ويتهمونهم بالتآمر والعمل لمصلحة جهات خارجية، إذ لم تسلم من هذه الظاهرة قوى المجتمع الأخرى من النخب الثقافية والإعلامية والفنية وغيرها".

وأضاف أنه "يمكن ملاحظة أن كثيراً من الشخصيات تتعرض لوابل من الاتهامات والتنكيل بها والطعن في مواقفها حتى يتم تدميرها. وقد برع تيار من حزب المؤتمر الوطني الحاكم السابق وهم مجموعة الإخوان المسلمين في حملات التخوين هذه ضد المشاركين في انتفاضة ديسمبر ومنهم قيادات سياسية وفي مجالات أخرى".

 وتابع أن "هذه السياسة الإقصائية اتبعها تنظيم الإخوان المسلمين منذ ستينيات القرن الماضي في إطار المنافسة بينه وطائفتي الأنصار الداعمة لحزب الأمة، والختمية الداعمة للحزب الاتحادي الديمقراطي، واستمرت حتى بعدما آلت زعامة الحزبين الأمة إلى الصادق المهدي، والاتحادي الديمقراطي إلى محمد عثمان الميرغني".

وواصل الأمين أنه "بعد مشاركة الأحزاب السياسية ضمن قوى سياسية أخرى منها لجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني والحركات السياسية التي دخلت جميعها في النشاط السياسي بعد الانتفاضة وحتى الآن، درج تنظيم الإخوان المسلمين على كيل الاتهامات لهم بسلاح التخوين ذاته وعبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية التي يديرها منتمون للنظام السابق الذين لا يزالون يطبقون المكارثية في أوسع نطاق لدرجة أنها لا تستثني أحداً".

وذكر أنهم "لم يكتفوا بتشويه سمعة أعضاء في القوى السياسية الأخرى، وإنما وصل الأمر إلى التهديد بالقتل، إذ اتهمت جهات الإسلاميين بمحاولة تصفية رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، ووجهت تهم الإرهاب إلى أفراد في التنظيم ألقوا بتوعدهم لشخصيات في قوى إعلان الحرية والتغيير".

اغتيال معنوي

من جانبه ذكر عضو لجان المقاومة أحمد إدريس أن "ما يمكن وصفه بالمكارثية السياسية والاقتصادية مارستها لجنة إزالة التمكين للنيل من خصومهم الإسلاميين، إذ ظلت هذه اللجنة منذ تشكيلها من قبل قوى الحرية والتغيير لحل النظام السابق وإعادة الأصول المملوكة إلى الدولة، تنتقي شخصيات معينة وتغتالها معنوياً".

وأورد أن "المكاسب التي حققتها هذه القوى لا تتناسب مع الخسائر المعنوية التي ألحقتها بكثيرين في إطار تصفية الحسابات مع المنتمين للنظام السابق وغيرهم ممن أخذتهم بالشبهات، إذ تعرض عدد من رجال الأعمال المعروفين لعمليات ابتزاز واسعة تسببت لهم بخسائر فادحة مقابل الحفاظ على سمعتهم ومشاريعهم".

 وأكد إدريس أن "الاتهامات زادت حدتها أثناء الحرب الحالية، فوُظفت كإحدى أدوات اكتساب القوة في محاولة للسيطرة على سيولة الأوضاع السياسية"، مضيفاً أنه "في الوضع الحالي، تكاد ثنائية حكومة- معارضة أن تكون تلاشت بالفعل بسبب الفوضى. وإذا كان التخوين يقود إلى التكفير والانتقاص من السلوك وهو سلاح الإخوان المسلمين ضد خصومهم، فإنه لدى الطرف الآخر تشكيك في الوطنية واتهام بإعاقة الديمقراطية".

ساحة حرب

 وقالت اختصاصية التنمية البشرية سارة سعيد "هناك من يطلق الأحكام جزافاً بإسباغ صفة الوطنية على بعضهم، وسحب هذه الصفة من آخرين، من دون وعي بمردودها وما يمكن أن تحدثه هذه الأحكام في النسيج الاجتماعي من فجوة ومشكلات وزيادة في التفرقة التي حدثت بسبب الحرب".

 وترى أنه في ظل الحرب "يجرم المواطنون أحدهم الآخر، ويظن كل منهم أنه أكثر وطنية ويتفوق فيها على الآخرين، باعتبار أن من بقي داخل العاصمة الخرطوم أو داخل السودان يعتقد بأنه يتفوق بوطنيته على غيره، وبينما بدأ المواطنون برمي هذه التهم جزافاً تحت كل الظروف، يعمل بعض الساسة والمنتفعين على توزيع صكوك الوطنية هنا وهناك، ويحرمون منها غيرهم".

 وأوضحت أن "شيوع هذه الظاهرة على وسائل التواصل الاجتماعي يأتي نسبة إلى سرعة انتشارها ولاستخدامها من قبل شريحة كبيرة في المجتمع، إضافة إلى أن الوسائل باتت الملجأ الوحيد للأخبار والتحليلات بعد توقف وسائل الإعلام الأخرى بسبب الحرب، حتى تحولت هذه الوسائل إلى ساحة حرب أخرى لها تأثيرها في تغيير خيارات ومسارات الأحداث".

وأضافت أن "التأثير كبير ومخيف وأكثره الذي يدفع إلى القلق، لما يقع على وتيرة السلم الاجتماعي، ومدى إمكان إعادة تشكيل المجتمع الذي تمزق نسيجه بعد وقف الحرب".

 وحذرت سعيد من أن "هناك اعتقاداً لدى بعض السودانيين بأنهم أحق في الوجود في المشهد السياسي لأنهم وطنيون أكثر من غيرهم، بل إنهم حجزوا مقاعدهم في الحكومة المقبلة بعد وقف الحرب، مما ينتج نوعاً جديداً من الصراع الداخلي بما يهيئ الأجواء لقيام حرب بين المواطنين أنفسهم".

 وأكدت أن "المجتمع بعد الحرب مختلف تماماً عن المجتمع السوداني قبل أن تصيبه لعنة الحرب بخرابها ودمارها وترغم الملايين على النزوح واللجوء. فقد تغيرت مفاهيمه وبدأت تتشكل قراراته باتجاه خيارات معطوبة بسبب الانهيار النفسي نتيجة لتوالي الخيبات التي ألمت بالوضع السياسي والاقتصادي وانعكس أثرها على المجتمع".

ورأت أن "من لا يستطيع التحكم بقراراته في ظل الحرب، لن يستطيع ذلك في وقت السلم مما يؤثر في خياراته، وربما يتلاشى حلم تحقيق الديمقراطية لأنها كي تكون ناجحة تتطلب مزيداً من الوعي والاستقرار وتذليل العقبات ومعالجة التحديات".

تشابك المشاعر

وفي السياق ذاته قالت أستاذة علم الاجتماع السياسي عفاف مصطفى "يؤثر التخوين في السلم الاجتماعي، إذ تتحول العلاقات من علاقات إنسانية أو عملية يسودها الود والاحترام، إلى علاقات تبنى على الريبة والشك والهواجس. وتكثر هذه الظاهرة وفقاً للتباين الحاصل في البيئة السياسية".

وتربط مصطفى بين إطلاق "التخوين" مع حالات انعدام الأمن الاقتصادي والسياسي والاستعداد لدعم جهات سياسية أو عسكرية دخيلة، مما يؤدي إلى نشوء حركات تمرد شعبوية تؤثر في مجمل النشاط السياسي.

وتتحدث عن "خطورة تُهم التخوين في دعم حركات التمرد الشعبوية سواء كانت حركات سياسية حملت السلاح أو عسكرية"، وترى أنه "بينما يحفز التخوين مشاعر القوة السياسية، فإنه في الاتجاه الآخر ينشط المجتمع بالتركيز على المطالبة باسترداد كرامته وإظهار الفخر بسمات معينة مُستلبة مثل الشجاعة والإقدام وغيرها، مستفيداً من تشابك هذه المشاعر مع الذاكرة والهوية والأخلاق وفي حالات أخرى تتحول إلى الانتقام، خصوصاً من الفئات التي تعاني التهميش الاقتصادي والسياسي".

 وذكرت مصطفى أنه "عندما تقترن تهم التخوين بالإذلال، فإنها تكون أشد فتكاً لأن الغضب من موقف ما يتضمن إسناد اللوم إلى الخارج، لكن تهم التخوين موجهة نحو النخب التي تنتمي إلى المجتمع الوطني نفسه الذي يُعهد إليه بالدفاع عن مصالح المواطنين سياسياً واقتصادياً ويُنظر إليهم على أنهم تواطأوا مع عملاء أجانب وأنهم تسببوا في الأذى الاجتماعي".

المزيد من تحلیل