Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"في الوطن" للطاهر بن جلون: شيخوخة الثمانيني وعزلة المهاجرين

هل نضبت قريحة الكاتب أم أتت روايته "الأخيرة" تأكيداً للفشل في تغيير العالم نحو الأفضل؟

الطاهر بن جلون: من التحليل النفسي إلى الأدب فالمعارك (أ ف ب)

ملخص

في آخر رواياته الكبيرة "في الوطن" لم يقنع الكاتب الفرنسي باللغة الفرنسية الطاهر بن جلون معجبي رواياته حتى ولو أنه شكل علامات ما في مسيرته الكتابية، بل اعتبر بشكل سنوي مثيراً للمشكلات ودافعاً إلى إثارة العواصف في وجهه لطابعه السياسي، الذي غالباً ما يقف ضد التيار.

في عام 2010 كان الكاتب المغربي باللغة الفرنسية الطاهر بن جلون يقترب من عامه الـ70 حين أصدر واحدة من رواياته الأخيرة "في الوطن" الرواية التي يعتبرها كثر آخر رواية كبيرة كتبها صاحب "الليلة المقدسة" و"ابن الرمال" وغيرها من روايات حلقت بمكانته حتى بات منذ سنوات واحداً من أبرز المرشحين لنيل "نوبل" الأدبية، لكن المشكلة كمنت منذ ذلك الحين في أن أياً من كتبه التي أصدرها بعد ذلك ولا يزال يحرص على إصدار جديدها لم يقنع معجبي رواياته حتى ولو أنه شكل علامات ما في مسيرته الكتابية، بل اعتبر بشكل سنوي مثيراً للمشكلات ودافعاً إلى إثارة العواصف في وجهه لطابعه السياسي، الذي غالباً ما يقف ضد التيار.

ولعل من آخر آيات ذلك ما كتبه قبل حين وفي خضم ما يحدث في غزة أنه يعتبر "هجوم حماس الإرهابي يوم السابع من أكتوبر نهاية مؤسية للقضية الفلسطينية" ولنا أن نتصور كيف هبط هذا القول كالإعصار على من اعتبروا الهجوم "بداية لتحرير فلسطين"! وطبعاً لن نتوقف هنا عند هذا المظهر الأخير من مظاهر عقلانية ذلك الكاتب الذي نعرف أنه بدأ مساره الكتابي محللاً نفسياً سرعان ما جعل علمه في خدمة أدبه. فما يهمنا هنا هو النظرة التي يمكننا أن نلقيها على الرواية الحقيقية الأخيرة التي تستحق أن تعتبر رواية. وتحديداً على ضوء المرحلة الأخيرة من إنتاج بن جلون الذي يستعد حالياً لدخول عامه الـ80.

معارك

ولعل أول ما يجدر بنا أن نلاحظه في هذا المجال، ومن خلال "معارك" بن جلون من ناحية في وجه الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي الذي شن عليه الكاتب هجوماً لاذعاً تعليقاً على تصريحه بسحب الجنسية الفرنسية ممن يقترفون جرائم. ومن ناحية أخرى إلى استنكافه عن الرد على الكاتب الجزائري بالفرنسية أيضاً، ياسمينا خضرا الذي اتهم زميله المغربي بسد الأبواب في وجهه في المحافل والمؤسسات الفرنسية، مروراً باتهام الجزائريين له بأنه وضع نفسه في خدمة النظام المغربي... ونعرف أن بن جلون لم يخض بنفسه أياً من تلك المعارك إلا في حالات نادرة هو الذي فضل أن ينشغل بكتابات علمية أو فكرية أو سياسية كأن "يشرح العنصرية لابنته" في كتاب حقق مكانة كبيرة، وأن يشرح لها الإسلام في كتاب ناجح آخر، أو أن يتذكر في كتب أخرى كباراً ارتبط معهم بصداقة في فرنسا وغيرها. أو أن يصدر قاموساً محباً عن المغرب... غير ناس في طريقه أن يكتب باستفاضة عما يسمى "الربيع العربي" وحده أو مع كتاب آخرين، نصوصاً التقطت مبكراً حدود ذلك "الربيع" وانحرافاته بل حتى "استحالته". والحقيقة أن المرء لن يمكنه أن يدرك الفحوى الحقيقية لرواية بن جلون الكبرى "الأخيرة" إلا على ضوء إنتاج الكاتب في العقد ونصف العقد الأخير من مساره الكتابي. ووصولاً إلى التساؤل اللاحق عما إذا لم يكن بالإمكان اعتبار "في الوطن" بأكثر مما هي رواية، نوعاً من خاتمة ربطت لديه بين الحس الروائي والتوجه الأول للكاتب، لا سيما في كتابه غير الروائي الأشهر "أقصى درجات العزلة"، الذي طبق فيه رؤاه وغضبه في صلب المرحلة التي كان ينتقل فيها من التحليل النفسي إلى الإبداع.

العود على بدء

ففي عام 1977 وكان لا يزال في بداياته، عرف الكاتب المغربي باللغة الفرنسية الطاهر بن جلون، القراء إلى كتاباته وأفكاره من خلال ذلك الكتاب النفسي – الطبي، الذي لا يزال حتى اليوم واحداً من أهم الكتب التي تحدثت عن العمال المهاجرين في شكل عام والعمال المغاربة الذين يقيمون ويعملون في فرنسا، "أقصى درجات العزلة". يومها حقق هذا الكتاب نجاحاً كبيراً. غير أنه في المقابل لم يوح أبداً بأن صاحبه سوف يصبح بعد حين واحداً من أهم الروائيين العرب في اللغة الفرنسية، بل حتى واحداً من أبرز الأدباء "الفرنسيين" المعاصرين.
حين أصدر بن جلون "أقصى درجات العزلة"، برز كمناضل في سبيل العمال العرب المهاجرين وفاضح للقمع النفسي الذي يتعرضون له. وطوال عقود بعد ذلك، توجه إلى كتابة الروايات ولكن ضمن إطار خط فكري ظل ذلك النضال من علاماته، بمعنى أن القسم الأكبر من رواياته ظل مطبوعاً بذلك الهاجس، لكنه بالتدريج ومع الوقت أضاف إليه هواجس أخرى، لعل في مقدمها الشيخوخة والعودة إلى الوطن ومسألة الهوية والعائلة (وهي مواضيع أساسية في أعمال له مثل "ابن الرمال" و"الليلة المقدسة" و"يوم صامت في طنجة" و"نزل الفقراء") إضافة إلى هموم فكرية عالجها في كتب له غير روائية أصدرها بين رواية وأخرى.

العلم على ضوء الأدب

قبل سنوات من اليوم، وإذ اقترب الطاهر بن جلون من عامه الـ70، وأصبح وراءه عدد مهم من الكتب التي ترجم معظمها إلى عشرات اللغات، ولكن ليس دائماً إلى العربية (!)، وحققت مبيعات مدهشة، أصدر روايته الجديدة، "في الوطن" التي أثارت فور ظهورها في المكتبات حينها موجة عارمة من الاهتمام. أما مصدر الاهتمام الاستثنائي بها، فكمن في أنها تكاد تكون ملخصاً جامعاً لكل هموم بن جلون وصنوف رواياته وكتبه الفكرية. ولكأن الكاتب أراد هنا، من ناحية، أن يرسم بموهبته الروائية الفائقة صورة لأفكاره ورصده لحياة العمال المهاجرين، مترجماً إلى حد ما، مضمون كتابين له على الأقل هما "أقصى درجات العزلة" و"يوم صامت في طنجة"، ومن ناحية ثانية، وضع وصية فكرية –إنسانية– اجتماعية، بل سياسية حتى. تقول وفي شكل قاطع الكلمة الفصل في كل ما جوبه به طوال حياته الأدبية من التباسات وضروب سوء فهم، بل معارك. المهم، بتلك الرواية الجديدة أضاف بن جلون إلى رصيده، وقتها عملاً أدبياً لافتاً، عرف فيه كيف يزاوج تماماً بين ما بقي لديه من مفاهيم علم النفس الجماعي التي طبقها على مرضاه ومعارفه في كتبه العلمية، وما تراكم لديه من نفس روائي مدهش. وهذا كله يقدمه بن جلون من خلال حكاية محمد الشخصية المحورية في الرواية. فمن محمد هذا؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين الأدب والتحليل النفسي

هو عامل مغربي أمضى 40 عاماً من حياته يشتغل في فرنسا بكل نزاهة وأمانة، ضارباً الصفح حتى عن كل الإهانات وضروب العنصرية التي كان يتعرض لها، مثله في هذا مثل عشرات الألوف من مواطنيه الذين عرفوا المسار والمصير نفسهما، والذين كان بن جلون نفسه تحدث عنهم وعن معاناتهم في عديد من كتبه وبخاصة، طبعاً، في "أقصى درجات العزلة" حيث كان الحديث علمياً يدور في فلك التحليل النفسي الجماعي. أما الآن حين تلتقطه الرواية فإن محمد دخل سن التقاعد ولم يعد لديه بالتالي ما يفعله في حياته اليومية. وعلى ضوء هذا الواقع الجديد تتضافر التجربتان: تجربة العمل في فرنسا وتكوين العائلة فيها، وتجربة ولوج زمن الشيخوخة. ففي هذا النص الذي يروي لنا غالباً بلسان محمد نفسه، محمد الذي يبدو على الفور شخصية طالعة من بعض فصول وملامح عديد من شخصيات روايات بن جلون، في هذا النص يبدو محمد كمن بوغت بوصوله إلى التقاعد، وكمن يسأل نفسه: لماذا أتوقف عن العمل وأنا ما زلت قادراً عليه؟ إنه سؤال محير، لكن ما يفوقه إثارة للحيرة هو تغير النظر إلى محمد الآن.

إذ ها هو يكتشف أن أولاده الذين رباهم على مكارم الأخلاق ومبادئ الدين القويم، لم يعودوا يعرفونه. هو بالكاد يمكنه التفاهم معهم وبدفعه هذا إلى محاولة فهم ما يدفعه أي مغادرة فرنسا التي كان يمكن أن تكون شبه وطن له حي كان جزءاً من ديناميكيتها أي حين كان يشتغل، أما الآن فإنها لم تعد وطنه على رغم من السنوات الـ40 التي عاش فيها أميناً هادئاً مخلصاً لعمله، بل لم يعد جسده جسده، كما أن أولاده لم يعودوا أولاده. ومع ذلك يصر على مواصلة حياته وكأنما تفكيره العميق واستعادته وطنه يأتيان هنا حلاً مصيرياً للإشكالات التي كان بن جلون طرحها في "أقصى درجات العزلة"، مما يعني أن التحليل النفسي إنما أتى هنا ليس لتفسير الأدب بل استكمالاً له. ومن هنا بدا وكأن الكاتب عاد على بدء وأتت مواقفه في الرواية "الأخيرة" مفسرة لماذا يمكننا أن نقول إنها رواية أخيرة؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة