Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

توبة الدقائق الأخيرة تمحو سيئات أبطال مسلسلات البلطجة

يرى بعض النقاد أنها محاولة للتحايل على قيود الجهات الرقابية لتجنب تجميد الأعمال

بوستر مسلسل العتاولة (مواقع التواصل الاجتماعي)

ملخص

في السنوات الأخيرة بات هناك توجه معاكس وأصبحت جاذبية الشر والخروج عن القانون مغرية لصناع الدراما.

الإغراق في المثالية كان اتهاماً يوجه دوماً لصناع المسلسلات التلفزيونية منذ الثمانينيات وحتى السنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة، فنجم العمل الأول في معظم الأوقات يقدم كبطل مميز، يتمتع بالشهامة والقوة والنزعة الأخلاقية تكون عالية لديه بصورة ملحوظة، وكثر كانوا يرون أن هذا الأمر بعيد كل البعد من الواقع، لا سيما أن الضعف الإنساني هو الأكثر انتشاراً في الحياة.

بدا استنساخ نموذج "أبو العلا البشري" الشخصية الشهيرة التي قدمها الكاتب المصري الراحل أسامة أنور عكاشة على مسلسلين منتصف ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أمراً منفصلاً عن الواقع يواجه بآراء مستهجنة من قبل فئات كثيرة سواء كانوا متخصصين أو مشاهدين متمرسين، بخاصة أن رسم الأدوار التي تنتمي لهذا العالم كانت تبدو مصطنعة في أوقات كثيرة.

لكن اللافت أنه في السنوات الأخيرة بات هناك توجه معاكس لهذه الموجة، وأصبحت جاذبية الشر والخروج على القانون مغرية لصناع الدراما، ربما بعد نجاح الأبطال الذين ينتمون لهذا العالم في استقطاب الجماهير من خلال مسلسلات عالمية شهيرة وبينها "The Sopranos" عام 1999 على سبيل المثال ثم في ما بعد ""Breaking Bad، وPeaky Blinders""، إلا أنه كان لافتاً إلى أن النماذج العربية تقدم بطريقة تجعل الجماهير تتعلق بالبطل وتصرفاته التي تقدم توليفة متنوعة من أعمال الشر ومواجهة التشريعات القانونية.

وكثيراً ما تكفلت التبريرات الدرامية بصنع تلك العلاقة الاستثنائية التي قد تكون مربكة، ولكن لأسباب مختلفة يجنح القائمون على العمل لغسل أيديهم من هذه السلوكات بأن يجعلوا نهاية الحلقات بمثابة تطهير للأبطال الأكثر شراً وعنفاً، وكأنهم يتبرأون مما اقترفوه بل ومن شخصياتهم التي قدمت على مدى حلقات طويلة إذ يستيقظ ضميرهم بصورة فجائية، وحتى لو كانت تلك التحولات ملفقة، فإنها باتت شائعة فبدت كجواز المرور المتفق عليه.

الوقت بدل الضائع

البعض يرى أن اللجوء لتلك الطريقة يعني الضرب بأساس العمل وحبكته على مدى الحلقات الأساسية عرض الحائط، لتنقلب الآية بصورة مفاجئة، ويكتشف البطل بين ليلة وضحاها أنه كان على خطأ وأنه آن أوان التوبة قبيل انتهاء المسلسل بدقائق، فهل يعد هذا التوجه استخفافاً أو سخرية أو نوعاً من الخداع؟

يظل البناء الدرامي كله مبرراً ثم يحدث الانقلاب من دون تمهيد مقنع، بعد أن يقضي الجمهور الحلقات السابقة التي يصل عددها في الغالب إلى 29 حلقة لاهثاً وراء حكاية مشوقة يضطر فيها البطل على الأرجح إلى الخروج عن القانون من أجل تحقيق الذات والحصول على النفوذ والسلطة، ثم يستفيق ويعلن توبته ويعترف بأخطائه ويدخل في نوبة من الندم، ويسعى بنفسه إلى نيل عقابه الدنيوي مثلما حدث في مسلسل "الأسطورة" لمحمد رمضان الذي عرض في رمضان 2016، إذ شهدت حلقته الـ30 تنكر البطل لكل الأفكار التي روج لها طوال الأحداث، مبدياً أسفه على ما اقترفه وباكياً على مصير عائلته بسبب ما جنت يداه، ثم يذهب ليسلم لنفسه ليد العدالة، ليتم الحكم بإعدامه جراء الجرائم التي اقترفها في سبيل تحقيق إمبراطورية من التجارة غير المشروعة.

 

 

الأمر نفسه تكرر بصورة أو بأخرى في أعمال مثل "ولد الغلابة" و"7 أرواح" و"فوق مستوى الشبهات"، وغيرها، وعلى رغم تراجع تلك الوتيرة نسبياً فإنها على سبيل المثال سيطرت على مسلسلات عدة عرضت ضمن موسم رمضان 2024، أبرزها "العتاولة" من بطولة أحمد السقا وباسم سمرة وطارق لطفي.

وحقق العمل الذي ينتمي للدراما الشعبية المصرية جماهيرية كبيرة خلال الموسم الدرامي، وتعلق المشاهدون بشخصياته التي تتفنن في القفز على القوانين والهرب من العقاب المستحق، والذين يعيشون في صراعات مستمرة ومنافسة من أجل المال، باعتبارهم يحترفون جرائم النصب والسرقة ولا يترددون في مخالفة كل الأعراف من أجل المحافظة على سطوتهم.

وبحلول الحقلة الأخيرة يقرر بطلا العمل "خضر ونصار" التبرع بما كسباه من أعمال النصب إلى الجمعيات الخيرية، كما يحدث تعاون بينهما وبين الجهات الرسمية للخروج من دائرة الإجرام، وذلك بعد 29 حلقة عاشها معهم المتابعون الذين تعاطفوا بصورة أو بأخرى مع المبررات التي ساقتها الدراما.

الندم على الماضي

وبعد أن مرت حلقات مسلسل "كوبرا" في مغامرات مشوقة دارت في إطار شعبي أيضاً حول البطل الذي عوقب بالسجن نتيجة أخطائه المتكررة وإصراره على الخروج عن القانون بسبب ظروف حياته، وارتكب جرائم سرقة وتورط بالقتل أيضاً، يقرر في النهاية التعاون مع الشرطة لمحاولة فتح صفحة جديدة وتأمين مستقبل بعيداً من رجال العصابات، والعمل الذي عرض في 15 حلقة من بطولة محمد إمام.

لم تغب فكرة التوبة عن المسلسل السوري الأكثر إثارة للجدل في الموسم الرمضاني الماضي "ولاد بديعة"، وكان يتعاون الإخوة مع رجال العصابات في السطو والسرقة والتهريب، ولكن في الحلقات الأخيرة تدريجاً بدأت تتكشف نيتهم، ولا سيما سكر، ترك الماضي بأخطائه ومحاولة التطهر والمسامحة، وشهدت الحلقة الأخيرة تعاونهم مع رجال إنفاذ القانون للإيقاع بقادة العصابات أملاً في تحسين ملفهم الأمني، وغسل سمعتهم بعد أن التصقت بهم الأعمال غير المشروعة، والعمل من بطولة سلافة معمار ومحمود نصر وسامر إسماعيل.

بصورة عامة تكون التوبة في بعض الأوقات وكأنها خط مواز للقصة الأصلية ولا تتقاطع مع أي من معطياتها، ملفقة ومقحمة في العمل، فإنها عندما تقتصر على عدة مشاهد قليلة لا تنجح عادة في محو التأثير الدرامي للحكاية التي ارتبط بها المشاهدون، وبتوجهها الذي قد يحمل كثيراً من المبررات لسلوك البطل الخاطئ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذه التوبة قد تكون وسيلة تمرير السيناريو إذ يشترط بعض الجهات أن يحمل الخط الدرامي إدانة لسلوك البطل الخارج عن القانون كي لا تبدو طريقته الخاطئة بمثابة تشجيع على السير على خطاه، من ثم تكون المحددات الرقابية وراء جعل صناع الأعمال يتحايلون على قصصهم باختيار نهاية تحمل سمة التوبة والعقاب الأخلاقي للبطل على ما اقترفه حتى لو عاد إلى الصراط المستقيم في الدقائق الأخيرة، وذلك تجنباً لتعطيل المشروع، أو التعرض للإيقاف بعد العرض.

ففي مصر يحدد الكود الإعلامي الضوابط الدرامية في البلاد، والمعلن منذ أعوام عدة، وكان المجلس الأعلى للإعلام بالقاهرة أوضح في بيان رسمي له أن من ضمن أبرز بنوده الحرص على حرية العملية الإبداعية، وعدم التعرض للنواحي الفنية الدرامية، ولكن مع التزام الكود الأخلاقي والمعايير المهنية والآداب العامة، والتوقف عن تمجيد الجريمة باصطناع أبطال وهميين يجسدون أسوأ ما في الظواهر الاجتماعية السلبية التي تسهم الأعمال الدرامية في انتشارها.

مقايضة اضطرارية

وتبدو هنا أهمية إدانة العادات السيئة والسلوكات المنبوذة وليس تقديمها على أنها مصدر للتميز، على رغم اعتراض كثر على هذه الفكرة من منطلق أنها قد تحمل وصاية على الجمهور الذي بطبيعة الحال لديه عقل ومنطق ولن يذهب لتقليد الجريمة لمجرد أنه تابع حكاية عن تلك الأجواء.

يرى محمد هشام عبيه مؤلف مسلسل "صلة رحم"، الذي كان من أكثر الأعمال الرمضانية هذا العام تطرقاً إلى القضايا الشائكة، أن الكاتب لا سيما في مصر أحياناً يكون أمام مقايضة هل يقدم عمله الإبداعي مع وضع تفصيلة اضطرارية ترضى الجهات الرقابية والمجتمع، أم يتخلى عن المشروع بصورة كاملة؟

ولفت إلى أنه عادة يميل إلى إتمام العمل ثم يدخل في مفاوضات من أجل الوصول لحل مقبول درامياً، مشدداً على أنه ليس ضد النهايات التي قد توصف بأنها أخلاقية، إذا كان هناك تبرير فني ودرامي لها. وقال إن المبدعين عادة يكونون طرفاً في تلك النوعية من المعادلات، للقفز على الشروط الرقابية.

مسلسل "صلة رحم" بطولة إياد نصار ويسرا اللوزي وأسماء أبو اليزيد ومحمد جمعة، تناول إشكالية تأجيل الأرحام من منظور ديني وقانوني، في قالب إنساني اجتماعي، وشهد القبض على الطبيب الذي يجري عمليات إجهاض سرية مبرراً فعلته بأنه ينقذ مستقبل نساء وفتيات كن ضحايا لمواقف لم يخترنها، وظل طوال الحلقات يرتكب هذا التصرف الذي يعد جريمة كاملة ثم في النهاية نال عقابه، على رغم أنه ظل مقتنعاً بأنه يقدم خدمة إنسانية حتى لو تقاضى مقابلها أموالاً طائلة.

وأوضح عبيه أن نهاية العمل لم تشهد تدخلاً من أي جهة، ووصفها بأنها نتاج تفكير جماعي يبينه وبين المخرج مثل أي مشروع، مضيفاً أنه كان متفقاً عليها منذ بالبداية ولكن طريقة التنفيذ كانت محل أخذ ورد، فهي في رأيه نهاية منطقية درامياً ولم تهدف إلى إرضاء أي طرف أبداً، مشيراً إلى أنه مهما كانت التفسيرات فالبطل مات بعد أن حقق هدفه، لذا لا مجال للمزايدة عليه في هذا الشأن.

تعددت الأسباب والتوبة واحدة

وما بين التوبة المباشرة والعقاب الدنيوي والندم على الأفعال السيئة جاءت أيضاً نهايات عدد آخر من مسلسلات رمضان وبينها "سر إلهي" و"حق عرب" و"محارب" و"أعلى نسبة مشاهدة" و"المعلم" و"بيت الرفاعي"، إذ تم إغلاق ملفات الشخصيات الشريرة سواء بالانتقام والموت أو بمراجعة النفس أو بالسجن، وكأن هناك اتفاقاً ضمنياً على أنه يجب أن يأخذ المخطئ جزاءه قبيل نزول شارة الحلقة الأخيرة.

يتفق الناقد الفني محمد سيد عبدالرحيم مع تلك الملاحظة المتعلقة بتشابه تيمة نهاية أعمال رمضان 2024، مشيراً إلى أنه لا يمانع فكرة التوبة في المطلق، بخاصة إذا كانت النهاية بهذه الصورة تخص المبدع وتحمل وجهة نظره التي يقتنع بها من دون أن يكون قد تعرض لضغوط معينة أو تم إجباره بصورة أو بأخرى على تطويع الأحداث وفقاً لما تمليه الشروط الرقابية.

 

 

وأعاد التذكير بسلسلة أفلام "الأب الروحي" التي تناولت حكايات رجال أشرار وخارجين عن القانون ولم يجد المشاهد غضاضة في الوقوف بصفهم، لا سيما أنهم يواجهون كيانات أخرى أكثر شراً وظلامية، مشيراً إلى أن كثيراً من أفلام العصابات بصورة عامة تقدم جانباً إنسانياً خيراً لدى البطل مهما بلغت درجة شره، والبديهي أنه لا يتم النظر للعمل الفني على أنه يروج لدخول عالم الجريمة بقدر ما يستعرض قصة من منظور فني.

إلا أن عبدالرحيم مع ذلك ينوه بأن فكرة التوبة ليست قاصرة على ثقافة بعينها، وإنما هي توجه شائع في الأعمال الفنية محلياً وعالمياً، ويرى أن أسبابها متعددة، من بينها أن البعض بالفعل يهدف إلى بث رسالة محددة للمشاهدين، وعادة تكون ذات طابع أخلاقي تربوي، فهناك فنانون ومبدعون لا يزالون مقتنعين بتلك الطريقة المباشرة في التحذير من أمر ما، بل ويرون أن هذا التوجه قد يجعل أعمالهم أكثر جماهيرية.

وعلى جانب آخر تخضع المؤسسات الفنية وشركات الإنتاج في بعض البلدان لقيود من جهات رقابية تفرض على المبدعين إدانة الشخصية الخارجة عن القانون، وإذا كان بطلاً رئيساً فينبغي عليه التوبة، فمن وجهة نظرها لا يجب أن ينتصر الشر وألا يكون النموذج المحوري لديه سجل جرائم، وذلك بدعوى أن هذه أمور ضرورية في سبيل بناء المجتمع.

ويضيف الناقد الفني أن هذا التوجه يبدو واضحاً للغاية في الأعمال التي تشرف على إنتاجها الجهات الرسمية، مشيراً إلى أنه "منذ عقود ونحن نرى على الشاشات توبة الأشرار، سواء كانت أعمالاً تلفزيونية أو حتى منذ بداية السينما، وهو سلوك ظهر في أفلام كثيرة لفريد شوقي ورشدي أباظة وفيما بعد أحمد زكي وغيرهم، بل هناك أعمال قليلة للغاية اكتفت بعقاب البطل بشدة كبديل للتوبة".

اقرأ المزيد

المزيد من فنون