راجح داوود اسم مهم في تاريخ السينما والموسيقى المصرية والعربية، سواء بمقطوعاته الشهيرة أو تأليفه موسيقى أفلام عدّة، اعتبرت من علامات السينما المصرية، ومن بينها "الكيت كات" و"رسائل البحر"، كما سجّل حضوراً كبيراً على الساحة العربية، كان آخره تلحينه النشيد الوطني الموريتاني عام 2018، والذي حظي بإشادة كبيرة.
"اندبندنت عربية" التقت داوود في وقتٍ كثر فيه الحديث عن تراجع الذوق العام وانتشار أغاني المهرجانات، لكنه لم يبدُ متفاجئاً من انتشار تلك النوعية من الموسيقى.
استنكر الموسيقار بدايةً طريقة تعاطي الرأي العام مع ظاهرة انتشار أغاني المهرجانات، ووصف كل من تناول تحليل الظاهرة بأنه "مش فاهم حاجة"، وقال إن الغريب هو تعجّب الناس من ظهور وانتشار المهرجانات، مُرجعاً رأيه إلى غياب التعليم والثقافة والتوعية للشباب لكي يختار الجيد من الرديء، مؤكداً أنه مهما اختلفنا على تقييم تلك الأغاني يجب الاعتراف بأنها ظاهرة موجودة منتشرة بين الناس في أوساط معينة مثل الشباب والأطفال، وهم الأكثر عدداً في مصر.
وطرح داوود تساؤلاً حول سبب تغيّر ذوق الجمهور، ليجيب عليه بأن غياب الاهتمام بالتعليم والثقافة منذ عشرات السنين هو السبب، حتى أن النشيد الوطني لا يوجد اهتمام بغنائه في طابور الصباح المدرسيّ، فالمشكلة ليست في وجود فن رديء، وإنما في الإقبال الزائد عن اللزوم عليه. واسترجع الموسيقار الكبير ذكريات الماضي حين كان بالمدارس اهتمامٌ بوجود حصص للموسيقى والرسم والرياضة لتنشئة الطفل بصورة صحيّة، مضيفاً "تركنا الأطفال والشباب عشرات السنين من دون توعية، ثم نلومهم الآن على سماع المهرجانات".
ووجه داوود رسالة لمن يهاجمون المهرجانات، قائلاً "لماذا لا تقدمون فناً جيداً يستطيع الوصول للناس"، معتبراً أن قرار منع مقدمي المهرجانات من نقابة الموسيقيين غير منطقي، لأنه حتى لو تم منعهم من ارتياد بعض الأماكن لتقديم أغنياتهم، فإنهم يحققون عشرات ملايين المشاهدين على الإنترنت، ولا يمكن السيطرة على الـ"يوتيوب".
ما هي "المهرجانات"؟
وحول التعريف العلمي للمهرجانات باعتباره أستاذاً في المعهد العالي للموسيقى، أكد أن أغاني المهرجانات هي أغاني شعبوية جماهيرية (popular)، مثل أغاني شعبان عبد الرحيم مثلا التي توصف بالشعبية لكنها ليست كذلك، لأن الغناء الشعبي له مواصفات أكاديمية معينة، مثل أن تكون متوارثة وغير معروف مؤلفها، مثل أغاني الحصاد المتوارثة في المناطق الريفية أو الأغنيات التي يردّدها عمّال البناء، ولذلك فإن الوصف الأدق لتلك الموسيقى هو الموسيقى الشعبوية أو الجماهيرية، لافتاً إلى أن المهرجانات بلا أصل، وأنه حتى الآن لا يُعرف مَنْ مُخترع كلمة (مهرجانات)، ولا يُعرف لها تعريف سوى أنها شائعة، بغضّ النظر عن تقييمنا لها.
الإعلام والتسويق للفن
وعن غياب التسويق للفن الجيد على مواقع التواصل الاجتماعي للوصول إلى الجمهور، رأى داوود أن فكرة التسويق في حدّ ذاتها تعدّ فكرة رخيصة، لأن وسيلة الفنان منذ عهد محمد عبد الوهاب وأم كلثوم لكي يعرفه الناس هو عمله في الحفلات، ثم تناول الإعلام لفنه، سواء بإذاعة الحفلات أو الكتابة ونقد العمل الفني، وبذلك ينتقل الفن من جمهور الحفلات بعدده المحدود إلى الجمهور العام، وبالتالي ما جعل أي فنان يشتهر هو قيمة فنه أولاً، ثم إدراك الإعلام لما يقدّم من فن جيد وإبرازه، معتبراً أن المسؤول عن كل ظواهر الفن الرديء وقلة المعرفة بالفن الجيد هو الإعلام الفاسد والجهل العام المرتبط بالتعليم وعدم وجود مؤسسات ثقافية قوية تنافس هذا الجهل والظواهر السلبية، لأن التعليم يمنح المواطن القدرة على التفرقة بين ما هو جيد وغير جيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستشهد على رأيه في دور الإعلام بأغنية "بنت الجيران" التي تداولت أخيراً على نطاق واسع، ليس لأنها تستحق وإنما بسبب الصخب الإعلامي حولها الذي يعدي أقوى منها "مليون ألف مرة"، بخاصة أن عشرات الأغاني المشابهة ظهرت في السنوات الماضية ولم تحظَ بهذا الصخب، مضيفاً أن المشكلة ليست كلمتي "خمرة وحشيش" في الأغنية، لأن عبد الوهاب وسيد درويش وسيد مكاوي غنوا لمثل تلك المعاني ولم يُنتقدوا، واستدرك بأن الأغنية فجّة بالطبع، ولكن هناك فجاجة في المجتمع كله وليس الأغنية فقط لأن الأغنية تمثل المجتمع.
ورفض الربط بين موسيقى المهرجانات والاحتفال بالعُرس كما يحدث حالياً، قائلا "طول عمرنا نقيم أفراحنا من غيرها، وهناك مغنون آخرون يمكن الاستعانة بهم أو بأغانيهم، ولكن انتشارها حالياً مرتبط بتغير ذوق الجمهور".
الدولة ونشر ثقافة الجَمال
وعن دور المجلس الأعلى للثقافة الذي يشغل عضويته، أكد أن المجلس جهة استشارية لوزارة الثقافة يُحوّل إليها موضوعات لأخذ الرأي حولها، مثل المشاريع الثقافية التي تقوم بها الجهات الحكومية كافة، مؤكداً أن المجلس ناقش في جميع مؤتمراته قضايا الجهل وانعدام الوعي، ولكن العبرة بما يُؤخذ به من توصيات، مشيراً إلى أن الدولة المصرية لا تأخذ بأي من توصيات المجلس، كما أن المشاريع الثقافية الخاصة لا يوجد عليها سيطرة إلا في حالة تقديم دعم مالي من الدولة.
وعن دور المسؤولين في نشر قيم الجَمال في مواجهة القبح، قال داوود إن الجمال في تفكير الحكومة يجب أن يتمثل في إجبار الأطفال على تعلم الموسيقى والرسم والرياضة، وأن تصبح مادة إجبارية لأن ذلك ما يبني الشخصية، لأنه مع الاعتراف بأن العلم شيء عظيم، لكن ليس بالعلم وحده يحيا الإنسان، والدليل أن معظم المتطرفين والإرهابيين من حملة شهادات الطب والهندسة، مؤكداً أن بناء المواطن أهم بكثير من بناء جسر، لأن من سيحافظ على "الكوبري" مواطن متعلّم وعنده وعي بالجمال، كما أن تعليم الموسيقى لا يحتاج إلى إمكانيات مادية كبيرة، يحتاج فقط مدرساً مؤهلاً جيداً، كما أن السلطة التي تنفق عشرات وربما مئات الملايين على تطوير الأحياء، من باب أولى أن تنفق تلك المبالغ على بناء الإنسان.
الإنتاج الثقافي... بين المسؤولية والتجارة
وأشار إلى أن الدولة المصرية منذ سياسة الرئيس الراحل أنور السادات في السبعينيات، أو ما عُرف بـ(عصر الانفتاح)، رفعت يدها عن الإنتاج الثقافي، بالتخلي عن مؤسسة السينما وفرق الموسيقى الممولة من الحكومة، موضحاً أن مؤسسة السينما كانت تنتج الأفلام وفق توجه ثقافي وتنموي وأيضا "تجيب ثمنها"، في وجود القطاع الخاص الذي يحاول إنتاج أفلام جيدة، وفي نفس الوقت لا يخسر مادياً، وبعد نهاية عمل مؤسسة السينما تُركت الساحة للقطاع الخاص الذي ينتج سينما للتجارة وليس الفنون، فظهرت (سينما المقاولات)، وبالتالي تركت السينما في يدّ تاجر جاهل.
ورداً على الانتقادات بارتفاع تذاكر حفلات دار الأوبرا، قال داوود إن الموارد المخصصة لدار الأوبرا ووزارة الثقافة عموماً محدودة، وحين تستقطب فنانين أجورهم عالية مثل أنغام وعلي الحجار وغيرهم "هتجيب تكلفتهم منين"، كما أن هناك جمهوراً قادراً على دفع 1500 جنيه (نحو 96 دولاراً)، وهناك حفلات في أماكن راقية تذاكرها تتخطى الـ5 آلاف جنيه (نحو 320 دولاراً)، واستدرك "مبلغ 1500 جنيه في تذكرة حفل لا تستطيع فئات كثيرة دفعه وأنا منهم"، واعتبر أن المشكلة تكمن في محاسبة الأجهزة الرقابية للمسؤولين عن دار الأوبرا كل عام إذا لم يحققوا أرباحاً، على الرغم من أن العائد من حضور طلاب الجامعة مجاناً لعرض قد يتكلف ربع مليون جنيه (نحو 16 ألف دولار) أهم بكثير من الأموال، لأن الدولة لا بد أن تنفق لبناء وعي هؤلاء الشباب، مؤكداً أنها لا تدرك أن فائدة بناء الإنسان من خلال الثقافة تساوي أضعاف ما يتم الحديث عنه كخسارة مالية في ميزانية دار الأوبرا، وبالتالي الدولة تفرض على الأوبرا أن تبحث عن المكسب المادي، مضيفاً أن أي دار أوبرا في العالم كله تدعمها الحكومة بالمليارات، لأنه مهما كانت التذكرة غالية لن تحقق تكلفة العرض، ولولا دعم الأوبرا سيموت هذا الفن.
وطالب الموسيقار السلطة بألا تحسب الإنفاق على المؤسسات الثقافية بمنطق "هات وخد" كأنها بضاعة، وإنما يجب اعتباره استثماراً لتعليم الناس الفنون والجمال، ودعا إلى تمويل حفلات لنجوم الفن، مثل أنغام وغيرها، في قصور الثقافة المنتشرة في المحافظات لمواجهة الفن الرديء بالجيد، لأن الدولة لو لم تدعم حفلات للفنانين المحترمين لن يأتي أحد منهم لدار الأوبرا، وإذا لم يتم ذلك علينا ألا نتعجب من ظهور أشخاص مثل نجوم المهرجانات، كما وجّه التحية للفرق الغنائية المستقلة التي تواجه الفن الرديء، مثل "مسار إجباري" و"كايرو ستيبس" وغيرها، معتبراً أن الإعلام لا يتحدث عنهم إلا قليلاً.
وأضاف أن بعض الأسر لديها وعي بأهمية تعليم أبنائها الموسيقى، ويحاولون تعليم أبنائهم بشكل خاص لابتعاد المؤسسات الرسمية عن دورها في تعليم الموسيقى.
موسيقى الشارات والأفلام
وبالعودة إلى بدايات مسيرته كمؤلف موسيقيّ للأفلام السينمائية، روى أن اختيار المخرج داوود عبد السيد له في أول أفلامه (الصعاليك) عام 1984 جاء بعد حفل قدّم بها عددٌ من المؤلفين الموسيقيين إبداعاتهم على مسرح قاعة (إيوارت) بالجامعة الأميركية في القاهرة، فأعجب بموسيقاه واختاره ليكون (الصعاليك) أول فيلم معاً، ثم استمر التعاون في 7 أفلام أخرى، مشيراً إلى أن تأليف موسيقى الفيلم يكون أحياناً من خلال قراءة السيناريو، وأحياناً بعد التصوير حسب نوع الفيلم. مثلا، أفلام الحركة تعتمد على الصورة وليس السيناريو، أما الأفلام التي بها فكر وفلسفة يكون التأليف من خلال السيناريو، وفي كل الأحوال لا بد من مشاهدة الفيلم بعد تصويره، أما المسلسلات التلفزيونية فيوضح أن الاهتمام الأكبر بها يكون لشارة المقدمة، ويتم تأليف الموسيقى بناء على الطابع العام للمسلسل سواء اجتماعيّ أو جريمة أو غموض أو دراما وغيرها، كما يتم تأليف ألحان عاطفية وتشويق وغيرها، ثم يقوم معد أو مخرج بتسكين تلك الألحان على المشاهد بأنواعها.
واعترف داوود بأنه كثيراً ما يكون معجباً بموسيقى أحد الأفلام التي ألفها، ثم تقلّ درجة إعجابه أو العكس، مشيراً إلى رفضه عزف موسيقاه بنفسه، متسائلاً "أنا هعيش كام سنة ولما أموت مين هيعزف؟"، مؤكداً أنه يفضّل أن يكون شخص غيره الوسيط بين فنه والجمهور، لأن الفنان لا بدّ أن يسعى لاستمرار فنه بعد وفاته.
وأشار إلى تفضيله تأليف موسيقى الأفلام السينمائية أكثر من المسلسلات، لأن الموسيقى في الأفلام تحظى باهتمام أكبر، أما في المسلسلات يتم الاهتمام فقط بالشارة.
السندريلا والرباعيات
وأعلن عن أنه حالياً يعمل على فيلم روائي قصير من إخراج المخرجة الشابة روجينا بسيلي، من إنتاج المركز القومي للسينما التسجيلية، يدور حول إحدى العاملات مع الفنانة الراحلة سعاد حسني.
وحول تجربة تقديم موسيقى مصاحبة لرباعيات الشاعر الراحل صلاح جاهين، أوضح أنه قرأ الرباعيات وانفعل بها وقرر تقديم عرض موسيقي عنها، مضيفاً أنه واجه مشكلة حول من يقدم إلقاء لرباعيات جاهين، بخاصة أن أفضل من ألقى شعر صلاح جاهين هو صلاح جاهين نفسه، مضيفاً "كنت أبحث عن شخص غير ممثل يلقي شعر جاهين حتى عرضت الفكرة على الشاعر جمال بخيت فتحمس، وهو أحد أفضل من يلقون الشعر من الشعراء، لأنه ليس كل من يكتب الشعر يستطيع إلقاءه".
سوق تجارية
وعن تقديمه عدداً محدوداً من ألحان الأغاني، أوضح داوود أن سوق الأغاني لها طابع معظمه تجاري مختلف عن موسيقى الأفلام، كما أن المطربين يحاولون الحفاظ على نجاحهم من خلال اتّباع النهج نفسه الذي نجحوا من خلاله من دون تغيير، وهو تفكير به قصور، مشيراً إلى أنه لا يستطيع تقديم سوى ما يحب القيام به ولا يقبل فرض طريقة معينة أو طابع معين في الموسيقى والألحان، موضحاً "أعمل ما أحسه وأحسّ أنه مناسب للصوت الذي ألحن له، لكن عملت أغاني في بعض الأفلام والمسلسلات، مثل أغنية (هوانم جاردن سيتي) وفيلم (سارق الفرح)، كما قدمت أغاني للأطفال في التلفزيون".
مهنة غير مجزية
وقال إن مهنة العزف والموسيقى في مصر غير مجزية لأن الأجور لا تتناسب مع المجهود الذي يقوم به عازف الأوركسترا، لأنه قبل الوصول لتلك المرحلة يمضي 20 أو 25 سنة في تعليم شاقٍّ، وبالتالي تلك المهنة تحتاج إمكانيات مادية أكثر من المتاح حاليا، وعلى الرغم من تقديم السوق الخاص المبالغ التي يستحقها الموسيقيون والعازفون، لكنهم لا يقدمون ثقافة أو أوبرا، وبالتالي العازف الذي يختار الاستمرار في الأوركسترا يُظلم.