في الوقت الذي تخيّم فيه الضبابية والغموض على مستقبل الاقتصاد العالمي، مع انتشار فيروس "كورونا"، واندلاع حرب النفط التي هوت بالأسعار بنسب كبيرة، انقسم محللون ومتخصصون اقتصاديون حول إمكانية استئناف دورة التيسير النقدي في مصر على الرغم من تراجع معدلات التضخم.
وفي مذكرة بحثية حديثة، عدلت مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس" توقعها السابق بتثبيت أسعار الفائدة حتى نصف العام الحالي، إذ ترجح حاليا خفضاً بقيمة 50 نقطة أساس حينما تجتمع لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري في 2 أبريل (نيسان) المقبل، إذ ترى أن الانخفاض الحاد في التضخم السنوي يضعه في مستوى أدنى بكثير من النطاق المستهدف من المركزي عند 9 في المئة (±3 في المئة) بنهاية العام الحالي.
وأوضحت أن تراجع التضخم، مصحوباً بتصاعد المخاوف من تفشي فيروس كورونا، يفتح الباب أمام صنّاع السياسة النقدية لاستئناف دورة التيسير النقدي في الاجتماع المقبل.
وترى "كابيتال إيكونوميكس" أن صعود الجنيه المصري 2 في المئة أمام الدولار منذ بداية العام حتى الآن، يمنح صانع السياسة مجالاً لاستئناف التيسير النقدي والانضمام إلى العديد من محافظي البنوك المركزية الذين يتطلعون إلى دعم الاقتصاد العالمي في مواجهة فيروس كورونا.
ويبلغ حاليا سعر الفائدة على الإيداع لليلة واحدة 12.25 في المئة وعلى الإقراض لليلة واحدة 13.25 في المئة، وسعر العملية الرئيسة للبنك المركزي 12.75 في المئة. وكانت اللجنة قررت تخفيض أسعار الفائدة 4 مرات خلال العام الماضي، بإجمالي تخفيض بلغ 450 نقطة أساس بين فبراير (شباط) ونوفمبر (تشرين الثاني) من العام 2019.
توقعات بتثبيت أسعار الفائدة
في الوقت نفسه، هناك فريق آخر يرجّح سيناريو التثبيت، حيث قالت رئيسة قطاع البحوث في فاروس القابضة، رضوى السويفي، إنه "على الرغم من أن قراءة التضخم الأخيرة جاءت أدنى من توقعاتنا البالغة 0.7 في المئة على أساس شهري، لكننا نتوقع أن يبقي المركزي على أسعار الفائدة كما هي".
وأضافت، وفقاً لنشرة "إنتربرايز"، أن "المركزي المصري" لا يمكنه تحمل مواكبة دورة التيسير النقدي العالمية في ظل الضغوط الراهنة على أهم ثلاثة مصادر للعملة الأجنبية والمتمثلة في السياحة والتحويلات من الخارج واستثمارات الأجانب في المحافظ المالية.
واتفق رئيس قطاع البحوث في "برايم" القابضة للاستثمار، هاني جنينة، إلى حد كبير مع الطرح السابق، إلا أنه لا يستبعد قرار الخفض لأنه الأكثر ملاءمة لمواجهة أي تباطؤ في الطلب الخارجي والمحلي، شريطة انحسار الضغوط على العملة المحلية وتراجع التدفقات الخارجة.
وأوضح أنه "بالرغم من كثرة المؤشرات التي تدعم الاستمرار في تبني سياسة نقدية توسعية - كما حدث في العديد من الأسواق المتقدمة والناشئة على حد السواء، وكما أشار المركزي في بيان لجنة السياسة النقدية خلال شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) 2020- فإن ضعف الجنيه أخيرا قد يكون العامل الوحيد الذي يدعم تبني سياسة نقدية أكثر تحفظاً".
وأشار إلى أن العديد من عملات الأسواق الناشئة، بما فيها الجنيه المصري، يترنح نتيجة تخارج رؤوس الأموال الأجنبية، وهو ما يضع صانعي القرار في حيرة شديدة، والتي غالبا ما تنتهي إلى إرجاء اتخاذ أي قرارات حتى تستقر الأسواق.
كما توقع رئيس وحدة بحوث الاقتصاد الكلي لدى المجموعة المالية "هيرميس"، محمد أبو باشا، أن يقوم "المركزي" بتثبيت أسعار الفائدة بسبب الآثار السلبية لأزمة كورونا على الميزان الخارجي للبلاد.
التضخم السنوي يهوي بشكل حاد
وأمس، أعلن الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء أن معدل التضخم السنوي العام بالمدن المصرية هوى إلى 5.3 في المئة في فبراير بعد ارتفاع دام 3 أشهر متتالية، حيث سجّل تراجعاً حاداً إلى 5.3 في المئة في فبراير الماضي، مقارنة بنحو 7.2 في المئة في يناير.
وتراجع معدل التضخم السنوي في إجمالي البلاد في فبراير الماضي إلى 4.9 في المئة، مقابل 6.8 في المئة في يناير. وعلى أساس شهري، سجل معدل التضخم في أسعار المستهلكين 0 في المئة الشهر الماضي، مقارنة بنحو 0.7 في المئة في يناير، وهو ما يعني استقرار المتوسط العام للأسعار في البلاد.
وللمرة الثانية، كانت أسعار الغذاء والتي تمثل نحو ثلث سلة السلع، السبب الأساسي في استقرار التضخم على أساس شهري، والتي سجلت انخفاضاً بنسبة 2.3 في المئة على أساس سنوي في فبراير، مقارنة بنفس الفترة قبل عام، وكذلك انخفضت 0.2 في المئة مقارنة بشهر يناير الماضي.
وسجل معدل التضخم السنوي الأساسي الذي يستبعد أسعار السلع المتقلبة مثل الغذاء انخفاضاً إلى 1.9 في المئة في فبراير، مقارنة بنحو 2.7 في المئة في يناير، وفقا للبيانات الصادرة عن البنك المركزي أمس. وعلى أساس شهري، تراجع التضخم الأساسي إلى 0.2 في المئة في فبراير، مقابل 1 في المئة في نفس الفترة قبل عام، و0.7 في المئة في يناير الماضي.
كما أعلن البنك المركزي المصري تراجع المعدل السنوي للتضخم الأساسي في فبراير الماضي إلى 1.9 في المئة، مقابل 2.7 في المئة في يناير الماضي.
وقال "المركزي" المصري، في بيان، إن الرقم القياسي الأساسي لأسعار المستهلكين - المعد من البنك- سجّل معدلاً شهرياً بلغ 0.2 في المئة في فبراير الماضي، مقابل نحو 1 في المئة خلال نفس الشهر من العام الماضي، و0.7 في المئة في يناير 2020.
يشار إلى أن معدل التضخم الأساسي السنوي الذي يقيسه المركزي المصري يستبعد السلع متقلبة الأسعار مثل الأغذية والتي تدخل ضمن قياسات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
القضاء على السوق السوداء وعمليات الدولرة
في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، قال رئيس مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية، خالد الشافعي، إن تراجع تضخم أسعار المستهلكين بالمدن المصرية إلى 5.3 في المئة في فبراير من 7.2 في المئة في يناير، يؤكد نجاح جهود الحكومة المصرية في السيطرة على معدلات الارتفاع في الأسعار، بخاصة للسلع الغذائية، والتي يرتفع الطلب عليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح أنه كان هناك توقعات بحدوث ارتفاع، لكن الأسواق تمكنت من امتصاص الزيادات التي شهدتها أسعار الطاقة مطلع العام المالي الحالي، ولم تؤثر على التضخم العام في البلاد، الأمر الذي أعطى حافزاً للبنك المركزي لتغيير وضع الفائدة وخفضها أخيراً، متوقعاً خفضها خلال العام الحالي.
وأشار إلى أن استمرار التراجع في التضخم كان الدافع الرئيس للبنك المركزي لخفض الفائدة في ظل تراجع ملحوظ في الأسعار وامتصاص موجة الزيادة التي كان من الممكن أن يسببها رفع الوقود والكهرباء، فعدم ارتفاع أسعار السلع والخدمات على المستهلكين، يؤكد سلامة الإجراءات الحكومية لكبح التضخم.
وأكد أن البنك المركزي المصري كان حذراً عند التعامل مع موجات التضخم التي أعقبت تحرير سعر الصرف في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، والأمر هنا يجعل الفترة المقبلة تشهد مزيداً من الانخفاض في التضخم، وذلك لأن القرارات الإصلاحية الصعبة تقريباً انتهت، بعد تطبيق مصر برنامج إصلاحي نجح في ضبط جزئي للموازنة العامة، وقضى تماماً على السوق السوداء للعملة وعمليات الدولرة في مصر، وهو ما أسهم في خلق حالة من التوازن في العرض والطلب على السلع.
وأوضح أن مصر تمضي في المسار الصحيح لتحقيق حلول ناجزة لعجز الموازنة العامة وخفض دين الحكومة كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، والتزام إيجاد مسار هبوطي للبطالة والتضخم اللذين يؤثران على المواطن، سواء بخلق آلاف من فرص العمل سنوياً، أو ضبط الأسواق وتوفير السلع بأسعار مخفضة عبر الشوادر والمنافذ المختلفة.
وأشار "الشافعي" إلى أن مبادرة تحفيز شراء المنتج المحلي ستؤدي إلى انتعاشة حقيقية في الأسواق خلال 2020، وستخلق فرصة أمام الصناعة المحلية للوجود بقوة وإثبات قدرتها بصورة أكبر على المنافسة، بل التغلب على بعض المنتجات المستوردة، ومن ثم استمرار السيطرة على معدلات التضخم.
ضغوط صعبة على مصادر العملة الأجنبية
في الوقت نفسه، تتواصل الضغوط على مصادر العملة الأجنبية، وبالفعل ظهرت على قطاع السياحة علامات التباطؤ، وهو ما يهدد بانخفاض الإيرادات لا سيما بعدما سجلت الحجوزات الجديدة إلى مصر هبوطاً بنسبة 70 في المئة إلى 80 في المئة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، وثمة ضغوط أيضاً على تحويلات المصريين العاملين في الخارج، بخاصة في دول الخليج وسط اضطرابات سوق النفط حالياً. وقد يخرج أيضا المزيد من المستثمرين الأجانب من أدوات الدين الحكومية سعياً وراء الملاذات الآمنة.
وألقت الضغوط بظلالها على العملة المحلية، إذ خسر الجنيه بعض مكاسبه أمام الدولار خلال أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع ماضية، والتي شهدت تدفقات خارجة من استثمارات الأجانب في المحافظ المالية بقيمة تتراوح بين ملياري إلى 2.5 مليار دولار في ظل بحث المستثمرين عن ملاذات استثمارية آمنة وسط تقلبات الأسواق.
ومنذ بداية العام الحالي، شهد الجنيه المصري ارتفاعات قياسية مقابل الدولار الأميركي، حيث تسبب قرار تعويم الجنيه المصري مقابل الدولار وتحرير سوق الصرف بشكل كامل في بداية نوفمبر 2016، في أن يصعد سعر صرف الدولار في مصر إلى مستويات قياسية وتاريخية.
وعقب قرار التعويم وضع البنك المركزي المصري سعراً استرشادياً للدولار عند مستوى 13 جنيهاً مقابل نحو 8.88 جنيه للدولار قبل قرار التعويم. وعقب تحرير سوق الصرف قفز الدولار إلى مستوى 19.60 جنيه في منتصف 2017، وهو أعلى مستوى بلغه على الإطلاق.
لكن مع تعزيز مصادر العملة الأجنبية والقضاء على عمليات الدولرة، عاد الاستقرار إلى السوق، حيث يجرى تداول الدولار في السوق المصرية عند مستوى 15.60 جنيه في الوقت الحالي.