هناك عند نوع معيّن من الكتّاب والشعراء خاصة، شغف غريب بالشاعر اليوناني/ الإسكندراني قسطنطين كافافي، يَمثل إما باستعارة بعض عباراته (محمود درويش في استخدام تعبير "كلام عابر" الذي يحمله عنوان قصيدة لكافافيس، أو الجنوب إفريقي كوتسي حين يعنون رواية له، هي "في انتظار البرابرة"، نقلا عن عنوان قصيدة للشاعر نفسه هي التي سنتوقف عندها بعد سطور...)، وإما باشتغال إبداعات لهم متمحورة من حول كتابات له، شعرية غالبا (مثلا يسري نصر الله في فيلمه "المدينة" المبنيّ أصلا على قصيدة كافافيس التي تحمل الإسم نفسه والتي تُقرأ في الفيلم؛ أو حتى إبراهيم البطوط الذي حقق واحدا من أجمل شرائطه الأولى حول قصيدة "إيتاكا" لكافافيس)، واللائحة تطول إن نحن أردنا استكمالها. ففي النهاية، بقدر ما كان كافافيس شاعرا غير شعبي لا في اليونان، وطنه الأصلي، ولا في الإسكندرية المصرية، "وطنه بالتبني"، كان اهتمام النخبة به قويا، حتى من دون أن تتساءل عن حصة مصر منه ومن إبداعه، وهي حصة مثيرة للتساؤل دائما، وربما للإسننكار أحيانا، غير أنها ليست موضوعنا هنا وإن كنا سنعود إليها آخر هذا الكلام.
تشويق في المدينة
موضوعنا هو بالتحديد تلك القصيدة البديعة التي تفاجئ المرء بهوميريتّها – نسبة إلى هوميروس وملحمتيه -، وقوة تعبيرها ومقدار ما فيها من رفض لأمور واقعة وتخاذل، واحتجاج مضمر أو واضح حتى على أية استكانة أمام الغزو والاحتلال الذي لن يكون ممكنا إلا بفعل تواطؤ داخلي أو لا مبالاة تصل هنا إلى حدّ الخيانة العظمى. فالقصيدة حين تصوّر، بترجمة الدكتور نعيم عطية مباشرة عن الأصل اليوناني (والمتضَمَّنة في كتاب "قصائد من كافافيس" الصادر قبل سنوات عن المركز القومي للترجمة في القاهرة)، مدينة تنتظر وصول البرابرة إليها وهي لا تقوى على أية مقاومة، بل تنظر إلى الإمبراطور بكلّ أبهته ينتظر البرابرة بدوره كما ينتظرهم الناس جميعا محتشدين، لا تفعل أقل من تصوير حالات عديدة لم يكن الأعداء بحاجة فيها إلى العنف والقوة كي يستولوا عليها، وهي إذ تصل في النهاية إلى التساؤل "ماذا سنفعل بلا برابرة؟ توصل عبثية الحال الإنسانية هنا إلى أوجها.
تقول ترجمة نعيم عطية للقصيدة: "ما الذي ننتظره في السوق محتشدين؟/ إن البرابرة يصلون اليوم/ وفي مجلس الشيوخ، لماذا هذا الإعراض عن العمل؟ لماذا جلس الشيوخ لا يسنّون التشريعات؟/ لأن البرابرة يصلون اليوم. وما الجدوى من أن يسنّ الشيوخ التشريعات، ما دام الأعداء حين يحضرون سيسنّون هم التشريعات؟/ لماذا صحا إمبراطورنا مبكرا هذا الصباح، وجلس عند البوابة الكبيرة في المدينة على عرشه مرتديا تاجه وزيّه الرسمي؟/ لأن البرابرة يصلون اليوم والإمبراطور في الإنتظار ليستقبل رئيسهم، بل وأعد الإمبراطور العدة ليمنحه شهادة فخرية يضفي عليه فيها رتبا وألقاباً (...)؟" وتتابع القصيدة في خاتمتها: "لماذا يبدأ هذا الإنزعاج وهذا القلق، ويرتسم الجدّ على الوجوه؟ لماذا تقفر الميادين والشوارع بسرعة ويعود الجميع إلى بيوتهم وقد استبدّ بهم التفكير؟ لأن الليل قد أقبل ولم يحضر البرابرة، ووصل البعض إلى الحدود وقالوا إنه ما عاد للبرابرة وجود. ماذا سنفعل الآن بلا برابرة؟ لقد كان هؤلاء الناس حلاً من الحلول".
شرقيّ المتوسط في تنوّعه
ولد كافافيس، كما هو معروف، في الاسكندرية في 1863، وهو لئن كان مات في أثينا في العام 1933، فانه انتمى إلى ابوين أصلهما من اسطنبول أقاما في مصر منذ 1845. وكان الأب تاجراً ثرياً غير انه كان مبذراً، وهكذا حين توفي في مصر في 1876، وكانت الأسرة مقيمة هناك، اضطرت للتوجه إلى بريطانيا حيث عاشت ثلاثة أعوام، عادت بعدها إلى مصر في 1879، لتبارحها في 1882 إثر الثورة العرابية ولكن هذه المرة إلى اسطنبول. ثم ما أن هدأت حدة الأحداث المصرية حتى عادت الأسرة ثانية إلى مصر في 1885. ونحن إذا كنا قد تحدثنا عن هذا الذهاب والإياب فلكي نشير إلى ارتباط كافافي منذ طفولته بمصر وإلى أنه لم يغب عنها سوى عدد قليل من السنوات. وهو، منذ حصوله على وظيفة في مصلحة الري في القاهرة في 1889 لم يغادر مصر إلا بشكل متقطع ونادر، حيث نراه يمضي في عمله 34 سنة كاملة فلا يتركه إلا في 1922. فكيف حدث لشخص عاش كل هذه السنوات في مصر، وشغل وظيفة عامة تضعه على احتكاك يومي بالناس وبالفلاحين، أن غابت مصر وشعبها عن شعره إلى هذا الحد، فإن ظهرت مصر أو الاسكندرية ظهرت تحت ملامح ماضيها الإغريفي البحت؟
بإمكاننا، بالطبع، أن نعثر على جزء من الجواب في اختيارات كافافي الشعرية نفسها، كما تجلت في كتاباته التي راحت تظهر بشكل مكثف خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته، أي السنوات التي شهدت تفجّر موهبته بعد أن اختزنت الموهبة ذاتها في ذاكرته غير مفصحة عن نفسها قبل ذلك. فالحال أن كافافي الفنان كانت تتعايش في داخله نزعتان فكريتان: النزعة الأولى تقوم على استعادة الماضي استعادة عقلانية، والثانية على التعبير القلق عن حساسيته الملتبسة والمبهمة التي جعلت منه شاعراً حقيقياً. وهذه الحساسية ارتبطت أساساً بفترة شبابه وأتت معبرة عنها، وهكذا امتزجت لديه النزعتان لتصبحا في سنوات النضوج كلا واحداً، يربط بين انغلاقه على ذاته وعلى هواجسه، وبين رغبته في ان «يخلّد» الطابع الإغريقي لمدينة الاسكندرية، ضارباً الصفح عن كل مراحل تاريخها وواقعها وأهلها.
بهذا المعنى يمكننا أن نقول إن كافافي - مثله في ذلك مثل عزرا باوند، ولكن من منطلق جمالي مختلف كل الاختلاف - كان يرسم أمام ناظريه مثلاً أعلى حضاريا وجمالياً يرتبط بالعصور الهيلنستية (الإغريقية) القديمة، ولا يكون فيه أي متسع للزمن الراهن. أما الزمن الراهن فهو زمنه الخاص، زمن هلوساته الداخلية وانغلاقه على نفسه وبحثه الدائم عن جمال غارب لا وجود له في عالم اليوم.
تلك العصور الذهبية
كان كافافي يرى أن العصور الذهبية للفكر والكرامة الإنسانيين هي العصور الإغريقية والبيزنطية، كما كان يرى أن الاسكندرية - المدينة الكوزموبوليتية بامتياز - كانت تمثل في تلك العصور، انفتاح اليونان وأوروبا على عالم الشرق وسحره وميتافيزيقيته. وهذا ما جعله، كشاعر، يرتبط بتلك الأزمان جاعلاً من الاسكندرية رمزها ومفتاحها.
ولكن هل يكفي هذا التفسير حقاً كمبرر لعدم وجود أية علاقة بين كافافي ومصر؟ وفي هذا الإطار هل من قبيل الصدفة أن يلتقي فورستر وداريل وكافافي وأونغاريتي على هذا التجاهل للبلد الذي يعيشون فيه؟ إن قلنا إن البلد نفسه كان مسؤولاً عن ذلك، تطلع أمامنا صورة كُتّاب آخرين فتنوا به ليس كتاريخ وجمال، بل كفاعلية إنسانية كذلك (لوتي، غوتييه، فلوبير... الخ). فهل لنا أن نستنتج من هذا أن ثمة من بين شعراء وكتّاب الجاليات الأجنبية الذين عاشوا في مدن مثل الاسكندرية وطنجة والجزائر وبيروت، من تملكتهم في أعماقهم - وفي لاوعيهم - نزعات شبيهة بتلك التي دفعت المستوطنين الفرنسيين في الجزائر إلى اعتبار الجزائر فرنسية، مما أوصل بعضهم إلى النظر إلى وجود العرب من سكانها على أنه وجود عابر؟
في حالة الناس العاديين يمكن لمثل هذه النظرة أن تجد تبريراً، وفهما وتفهماً بالطبع، ولكن حين ينظر المبدعون - والمبدعون الكبار من طينة كافافي - إلى الوضع مثل هذه النظرة، يصبح من حق المراقب أن يطرح العديد من الأسئلة حول خصوصية إبداعهم، سواء كان شعراً أو رواية أو حتى كتابات تاريخية. ويمكن، كذلك، طرح العديد من الأسئلة حول المسؤولية في قيام تلك الغيتوات في مدن الشرق حين كانت تضم أجانب يرفضون كلية الاندماج في حياة البلد وحياة أهله.