لا ترتبط علاقة ماسح الأحذية بالحذاء فحسب، بل وبمنتعل الحذاء أيضاً، فالزبون الذي يريد تنظيف حذائه ودهنه وتلميعه هو الذي يتوجّه إلى ماسح الأحذية الذي يجلس واضعاً كرسيه وصندوقه الخشبي أمامه، موزعاً عبوات "البويا" الملونة و"فراشي" التنظيف وقماش التلميع. فيضع الزبون قدمه على القطعة الخشبية المصممة لتثبيت الحذاء فوقها، ليبدأ ماسح الأحذية بعمله برشاقة وسرعة تحوّلان الحذاء المهمل القديم، إلى آخر جديد ولمّاع.
والزبون لا يُقدم على تلميع حذائه اضطراراً، وإلاّ لكان الزبائن يقفون في طابور أمام ماسح الأحذية، ولكانت هذه المهنة تدّر مالاً طائلاً على العاملين فيها. لكنّ مسح الحذاء وتلميعه يرتبط بأمور كثيرة، أولها الأناقة، أو حاجة الزبون أن يبدو مرتباً نظيفاً في عمله أو في لقاء ما سيذهب إليه، وقد يكون لقاء عمل أو لقاء أصدقاء، أو لربما يكون هوساً شخصياً بالنظافة والتأنق، خصوصاً أنّ الدراسات بيّنت أنّ عدداً كبيراً من الأشخاص يحكمون على شخصية آخرين من خلال أحذيتهم، أي "موديلها" ونظافتها.
ووجدت دراسة أجراها باحثون في جامعة كنساس أنه بالإمكان أن يحكم بعض الأشخاص على غيرهم بمجرد النظر إلى أحذيتهم ومعرفة أعمارهم وأجناسهم وأوضاعهم الاقتصادية، إضافةً إلى دخلهم. وخلُصت الدراسة إلى أن زوج الأحذية يمكنه أن يكون نافذة الروح التي توفر لقطة واضحة لشخصية الفرد. وشملت الدراسة أكثر من 60 طالباً درسوا 208 صور لأحذية، وطُلب منهم تحديد أجناس وأعمار والحال الاجتماعية والسمات الشخصية لكلا الجنسين، وأظهرت النتائج القدرة في التعرّف إلى بعض السمات الشخصية الصحيحة لمالكي هذه الأحذية.
ماسح الأحذية والزبون والحذاء
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معرفة شخصية الزبون تصحّ على ماسح الأحذية أكثر من غيره. في مقابلة أجريتها مع عدد من ماسحي الأحذية في شوارع بيروت وهم كثر، (ارتفع عددهم مع الضائقة الاقتصادية ومع النزوح الكبير للمواطنين السوريين إلى لبنان)، اتفق جميعهم على أنهم يعرفون من حذاء الزبون، إذا كان ميسوراً أو لا، وإذا كان ينتعل الحذاء ذاته يومياً أو أنه يمتلك أكثر من حذاء، وإذا كان يملك سيارة أو يُكثر من المشي للقيام بعمله، وإذا كان موظفاً مكتبياً أو موظفاً حراً. وأجابوا أنهم يعرفون شخصية الزبون من خلال حذائه، أي إذا كان كلاسيكي الذوق أو يواكب الموضة، وحتى طريقة مشيه.
هذا لناحية الزبون، أما لناحية الحذاء الذي يكون بين يدي ماسح الأحذية، فأجاب من قابلتهم، أن تركيبة الأحذية على اختلافها، مشتركة، وكيفية مسحها وتلميعها هي واحدة، تبدأ بتنظيف الغبار بالفرشاة، ثم تنظيف جوانب النعل مما علق فيه بفرشاة الأسنان المبللة، ثم نشر البويا على أجزاء مختلفة من الحذاء وتوزيعها على كامل أجزائه بواسطة إسفنجة، ومن بعدها ضربها بالفرشاة المصنوعة من شعر ذيل الحصان، ثم يأتي دور التلميع بواسطة قطعة من القماش.
وحدثني بعض الذين عملوا طويلاً في هذه المهنة عن الأجزاء التي يتألف منها الحذاء، فهناك "صندوق الأصابع"، وهو الجزء الأمامي من الحذاء والذي قد يكون مربعاً أو مثلثاً أو مستديراً. وهناك الجزء الخلفي أو كعب الحذاء ووظيفته تثبيت مؤخرة القدم في داخل الحذاء. وهناك باطن الحذاء الذي يعمل على التقليل من الاحتكاك بين النعل الداخلي وأسفل القدم، ويسهم في امتصاص الصدمات والعرق. وجزء خارجي، وهو الجزء الوحيد من الحذاء الذي يلامس الأرض.
دونية الحذاء في مجتمعاتنا
على الرغم من أن مهنة ماسح الأحذية تطوّرت مع تطوّر الأحذية ودورها، وباتت تلعب دوراً في تكريس أناقة الزبائن، وعلى الرغم من أنها تدرّ مردوداً مقبولاً للعاملين فيها، إلاّ أنّ معظم الأشخاص ما زالوا ينظرون إليها نظرة دونية، أو على أنها مهنة العاطلين عن العمل، في وقت هناك من يمنحها بعض الاحترام بالقول إنها كسب بعرق الجبين وخير من مدّ اليدّ والاستعطاء.
وهناك أدباء عالميون وعرب كثر كتبوا روايات أو قصصاً عن ماسحي الأحذية للتعبير عن معاناة الطبقات الدنيا في المجتمع. لكن في مجتمعاتنا العربية، ما يكرّس النظرة الدونية لهذه المهنة هو ارتباط تلميع الحذاء بالقدم التي تُعتبر لدى العرب بشكل عام في مكانة أقل من الرأس، أو من بقية أعضاء الجسم. ولعلّ هذا ما يفسّر احترام الحلاق الذي يتعامل مع الرأس مقابل ازدراء ماسح الأحذية، الذي يتعامل مع الحذاء الذي يلتصق بالأرض ويجمع ما عليها من فضلات وأوساخ. ولا ننسى أنه في الثقافة العربية، يُعتبر رمي أي شخص بالحذاء تحقيراً له.
ماسح الأحذية تركة استعمارية ومناضل
اختارت الجزائر المستقلة عن الاستعمار الفرنسي عام 1962، أن تبدأ عهدها مع الاستقلال بمحو كل أثر تركه المستعمر، وبعد مرور سبعة أشهر على الاستقلال، أمر الرئيس الجزائري أحمد بن بلة، بتجميع ماسحي الأحذية الصغار لتوزيعهم على مراكز تثقيفية لمحو أميتهم، وكانت هذه بداية إعلان الحرب على مهنة ماسحي الأحذية التي تُعتبر من المهن "الوضيعة".
إلاّ أنّ "جبهة التحرير الوطني"، التي قادت حرب التحرير ضد فرنسا، عرفت كيف تستفيد من ماسحي الأحذية الأطفال في خدمة الثورة والاستقلال. فقد كلّفتهم بمهمات ثلاث كانت حاسمة في المعركة ضد المستعمر في المدن. المهمة الأولى، مراقبة تحركات الجنود والمسؤولين الفرنسيين العسكريين والإداريين ورجال الاستخبارات والشرطة والدرك، ومعرفة الطرق التي يسلكونها يومياً والأماكن التي يتردّدون إليها والمقاهي والحانات التي يجلسون فيها.
والمهمة الثانية جعلت منهم صندوق بريد، إذ كان ماسحو الأحذية يستلمون الرسائل من رجال الثورة ويسلّمونها بدورهم إلى المعنيين بها. والمهمة الثالثة كانت استخدام صناديقهم كمستودع للمسدسات بعد تنفيذ المقاومين عمليات اغتيال ضد الفرنسيين، إذ يُترك المسدس في صندوق ماسح الأحذية، وبعد أن تهدأ الأوضاع، يعيد ماسح الأحذية المسدس إلى الجبهة.
الشركات... والعزلة
عام 1951، ظهرت أول أغنية في اليابان تعبّر عن طائفة ماسحي الأحذية ومعاناتهم بعنوان "طوكيو شووشاين بوي" (مساحو أحذية طوكيو). وعام 1955، ظهرت أغنية أخرى حطّمت الأرقام القياسية في شعبيتها بعنوان "ماسح أحذية تحت جسر النفق".
وبعد مرور 10 سنوات على الحرب العالمية الثانية، كان لا يزال الفقر جاثماً على صدور الطبقات الدنيا ومنهم ماسحو الأحذية من الصبية الذين انتشروا على الأرصفة وفي كل ركن تحت الجسور، والذين كانوا بالكاد يحصلون على قوتهم اليومي بعد عمل يوم شاق. لقد كان هؤلاء الصبية الصغار يُصلحون ويرقّعون الأحذية القديمة المتهالكة ويركّبون كعوباً جديدة لها ويخيطونها، كل ذلك إلى جانب مهنتهم الأساسية وهي مسح الأحذية. وكان من مشاهير اليابان الذين كانوا يشتغلون في شبابهم بتلك المهنة الشاقة الممثل كوروبيه سوسومو.
ومع تطوّر اليابان وتحقيق الرخاء الاقتصادي الذي قضى على الفقر، انعدم التواصل الاجتماعي بين اليابانيين، واختفت فرص الحوار بين الزبون وماسح الأحذية بعدما اختفت هذه المهنة نهائياً. وظهرت محال صغيرة تتولى إصلاح الأحذية في دقائق معدودة تحت مُسمى "مستر مينيت" (سيد الدقيقة الواحدة)، تنتشر داخل المجمعات التجارية والمولات.
وأدّت ساعات العمل الطويلة والسباق المحموم لتطوير اليابان على الصعيد التقني إلى التقليل من فرص احتكاك البشر مع بعضهم البعض، ما ولّد شعورا بالكآبة والوحدة في نفوس غالبية اليابانيين. ثم على حين غرّة، بدأت محال مسح الأحذية بالعودة مرة أخرى من الماضي، فصار البعض يقصدون تلك المحال الصغيرة بعد انتهاء يوم طويل وشاق لعلهم يحصلون ولو لدقيقتين أو ثلاث على نوع من التواصل الإنساني من خلال حوار عابر مع ماسحي الأحذية.
وفي هذه الآونة، ظهر تقليد جديد في اليابان حيث يقوم رؤساء الشركات الخاصة بتلميع أحذية الموظفين الجدد في شركاتهم، للتعبير عن التواصل بين رأس هرم الشركة وقاعدته، معتبرين أن هذه العادة المتّبعة تعطي انطباعاً بأن الجميع شركاء في سير العمل وشركاء في النجاح والفشل.
شخصيات عالمية عملت في هذه المهنة
عددٌ كبيرٌ من الشخصيات العالمية، بدأت حياتها العملية من أسفل الهرم الاجتماعي كماسحة أحذية، بمن فيهم سياسيون وأدباء ومطربون ورياضيون ورؤساء وزعماء بعض الدول. ونذكر منهم الرئيس البرازيلي السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي انتُخب رئيساً عام 2002، ثم أُعيد انتخابه عام 2006.
أما المصوّر الإيطالي إينيو ياكوبوتشي فقد بدأ من الأسفل في نهاية الخمسينيات، من ماسح أحذية في شوارع روما إلى الترشح إلى جائزة "بولتزير" للتصوير الفوتوغرافي من قبل جريدة "نيويورك تايمز"، إذ كان عام 1975 الغربي الوحيد الذي تمكّن من تصوير "المحاربين الحمر" في مدينة فنوم بين الفيتنامية. ولم تكن تلك الحقبة الفريدة من تاريخ الحروب الحافلة بالأحداث والمعارك لتهزّ الضمير العالمي، إلاّ بفضل توثيق هذا المصور الذي اقتحم بكاميراته ساحات الحروب في فيتنام ولاووس وكمبوديا وفلسطين.
بيليه... ستالين... ومحمد شكري
لاعب كرة القدم الأسطورة البرازيلي بيليه، يقول عن تجربته "كانت كرة القدم عشقي الأكبر، لكن كان يجب أن أعمل حتى أسهم في بقاء منزلنا المتواضع بلا جوع، لذا اضطررت إلى العمل في أكثر من مهنة، من بينها مسح الأحذية على أرصفة شوارعنا".
ستالين الديكتاتور السوفياتي مارس أيضاً مهنة مسح الأحذية، وخلال فترة حكمه التي شهدت أقسى أنواع التسلّط على الشعب الروسي، راح المستاؤون من "القائد العظيم، أبو الشعوب" يذكّرونه بماضيه ويطلقون عليه سراً لقب "ماسح الاحذية"، فأصدرت الحكومة قراراً في حينها يعاقب كل من ينعت ستالين بـ"ماسح الاحذية" بالسجن لمدة تتراوح بين خمس إلى 10 سنوات.
أيضاً، الروائي المغربي العالمي محمد شكري، عاش طفولة صعبة وقاسية في قريته، قبل أن ينزح مع أسرته الفقيرة إلى مدينة طنجة عام 1942. فعمل وهو دون العاشرة في مقهى، ثم عمل حمالاً وبائع جرائد وسجائر مهربة، وانتهى إلى ماسح أحذية، قبل أن يسرد تجربة التسكع في شوارع طنجة في روايته "الخبز الحافي" التي تُرجمت إلى عشرات اللغات، ومنحته شهرة عالمية.
لكن دانيال فاليرا، ماسح الأحذية الرسمي لنجوم مهرجانات "كان" السينمائية، من القلائل الذين يتباهون بعملهم في هذه المهنة، وقد نشر مذكراته آملاً في "إعادة الرونق إلى هذه الحرفة المنسيّة". فمنذ 10 سنوات، يلمّع فاليرا، وهو ابن عامل بناء إيطالي، أحذية المشاهير الذين يسيرون على السجاد الأحمر في مهرجان كان السينمائي.
ويروي في كتاب "ماسح أحذية المهرجان" ألف نكتة عن مهنة تثير الازدراء. ويقول إن الممثل الفرنسي كلود براسور "لا يسمح لأحد بالاهتمام بأحذيته"، شأنه شأن الممثل والمخرج الفرنسي فرانسيس بيران الذي اعترف له بأنه يمسح أحذية المقربين منه من أجل الترويح عن نفسه.