لا تقع منطقة "الوسط التجاري" أو "وسط المدينة" أو "داون تاون" كما اتفق على تسميتها، في الوسط الحقيقي لمدينة بيروت الكبرى، فهي في طرف المدينة وتحديداً في الجهة الشمالية الغربية منها. لذا، فإن تسمية "وسط المدينة" لا يصف موقعها الجغرافي قدر ما يعني وسطيتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يؤكدها انتشار المقاهي والمطاعم والحانات والمصارف والإدارات العامة والسراي الحكومي والبرلمان ومبنى الإسكوا وشارع المصارف ومبنى "أسواق بيروت" الكبير وعدد من السفارات الأجنبية. أي أنها في الوسط بقدر ما تجذب اللبنانيين إليها. وهي في الوسط لأنها الصورة المصغّرة للبنان ما بعد الحرب، أي صورة لبنان العائد إلى الحياة بعد موت.
مدينة أشباح
إلا أن هذه الساحة عادت إلى الموت "السريري" (اقتصادياً) منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري (2005) واضع خطة إعادة إعمارها. فتوقف السياح الأجانب والعرب الذين كانوا يحتشدون فيها، وأدى التضخم المالي في لبنان إلى جعلها حكراً على طبقة قادرة مالياً، قبل أن تتحول إلى "مدينة أشباح" بعدما باتت منبر لبنان أو ساحة التعبير عن الاعتراض على أنواعه، حيث يتظاهر ويعتصم كل صاحب قضية أو مطلب، إلى أن تحوّلت مركزاً لـ "ثورة اللبنانيين" على المنظومة الحاكمة والنظام السياسي الفاسد، التي انطلقت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
ففي وسط المدينة انقسم اللبنانيون إلى فريقين سياسيين، حين استقبلت تظاهرة 8 مارس (آذار) 2005، وبعد نحو أسبوع تظاهرة 14 مارس. وكرت سبحة الاعتصامات التي أقفلت الوسط لأعوام ممتدة ومتناسلة حتى العام 2008. كأنه قد كتب على وسط بيروت أن يتحمّل كل نتائج الانقسامات السياسية اللبنانية، وقبلها مآسي الحرب الأهلية التي حوّلته إلى ركام، بعدما كان منذ القرن التاسع عشر أيام حكم العثمانيين للبنان، ومن بعده الانتداب الفرنسي، مكاناً للقاء جميع اللبنانيين من مختلف الطوائف والمناطق والطبقات، وتنتشر فيه الأسواق التي تبيع مختلف أنواع البضائع التي تصلح لأصحاب الدخل المحدود وللأثرياء على حد السواء. وبعدما كان المكان الذي يختصر بيروت كلها. إذ حين كان يقول شخص إنه متوجّه إلى بيروت، فإنه كان يعني ضمناً، الذهاب إلى وسط المدينة أو "ساحة البرج" أو "البلد" أو ساحة الشهداء أو ساحة النجمة أو ساحة رياض الصلح. وهذه كلها تسميات تصلح لإطلاقها على ما اتفقنا على تسميته "داون تاون" في فترة السلم الأهلي اللبناني البارد، المنطلق منذ اتفاق الطائف الذي أنهى الحروب الأهلية المتناسلة، مطلقاً ورشة إعادة إعمار "الوسط"، التي لم تنته حتى اليوم لأسباب سياسية ما فتئت تقسّم اللبنانيين عمودياً وأفقياً.
وسط بيروت القديم
قبل الانتهاء من بناء جسر فؤاد شهاب المعروف بـ "الرينغ" في أوائل الستينيات، وهو يربط بين شرق بيروت وغربها، وقبل أن تبدأ السيارات عبور هذا الجسر، كانت ساحة البرج أو ساحة الشهداء أو "البلد" أو "الوسط"، الممر الإجباري للبنانيين لمغادرة بيروت أو للتنقل بين أحياء العاصمة. ففي تلك الساحة كانت تتوزع مواقف السيارات والباصات التي تنقل الركاب نحو سائر المناطق اللبنانية.
كان هذا "الكاراج" الكبير سبباً للقاء فئات مختلفة من اللبنانيين طبقياً وطائفياً. وكان "الكاراج" والأسواق القديمة الموزّعة في زواريب "البلد" تتبادل ضخّ الزوار والزبائن والمارة، فيزدهر "الكاراج" بسبب الأسواق والعكس. ولا بد من أن المستمع إلى أغنية صباح "جينا نبيع كبوش التوت ضيعنا القلب ببيروت" لا بد أنه سيتخيلها تبيعه في ساحة البرج وقرب الحديقة التي تتوسطها، والتي تبدو في الصور القديمة لبيروت الستينيات، مكتظة بالسيارات والمارة والباعة.
واكتظ وسط بيروت في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، بالنُزل التي يأوي إليها القادمون إلى بيروت في عمل أو إجازة ممن لا أقارب لهم فيها أو لا يملكون منازل فيها، وما زال بعضها قائماً في الشوارع المحيطة بالوسط. والساحة كانت محل سكن عائلات بيروتية من مختلف الطوائف، وكانت بسبب لائحة البضائع الطويلة التي تقدمها محلاً لتأمين حاجات سكان بيروت كلهم. ففيها سوق للبهارات على مقربة من سوق الذهب، وسوق للقباقيب على مقربة من سوقَي الحبال والملابس المستعملة، وسوق السمك قرب سوق الأحذية... إلخ. وإلى جانب هذه الأسواق، كان يقع شارع المصارف أو المطاعم أو حانات الغانيات، وتتوزّع بينها صالات السينما وأماكن اللهو والتسلية.
المؤرخ البيروتي عبد اللطيف الفاخوري كتب في "منزول بيروت" أنه كان للتجوّل في أسواق بيروت أصول وممنوعات، مثلاً كان ممنوعاً التجوّل ليلاً في الأسواق من دون مصباح، وذلك قبل اعتماد مصابيح معلقة على عصي لإنارة الأسواق بواسطة الغاز. وكان من الممنوعات لعب القمار، وجريان المياه المبتذلة في الطرقات، والكلام المبتذل والإسفاف والمسبّات، والتبوّل بجانب الحيطان. وممنوع أيضاً وضع السحاحير (الصناديق) أمام الحوانيت (المحال)، ومرور الأغنام، وكان ممنوعاً سوق أكثر من ثلاثة حمير بسبب ضيق الأسواق الأشبه بالزواريب.
والأسواق هذه كان أعرض شوارعها لا يتعدى المترين، تتوزّع على جانبيه المحال التي تبيع البضائع نفسها، لذا كانت تنتشر الروائح التي تخلفها البضائع والأجساد المتراطمة والمتزاحمة، وروائح المطاعم التي تقدم أنواع الأطعمة المختلفة المشوي منها والمقلي. وهذه الزحمة والروائح التي تبثها وتلك التنويعات في وظائف المكان، كانت تجعله مكاناً حميماً مليئاً بالحياة التي كادت تختصر بيروت بوسطها في الزمن السابق على الحرب.
التنوّع السكاني وانفراطه
كان الوسط محاطاً بأحياء تضم لبنانيين من طوائف وطبقات مختلفة. الشيعة والمسيحيون والأرمن في الكرنتينا والنبعة وبرج حمود يخالطهم فلسطينيون في مخيمات نبتت على حواف هذه الأحياء. واليهود في وادي أبو جميل، والسنة والشيعة والمسيحيون في رأس النبع وزقاق البلاط ومارالياس والحمراء وعين المريسة.
إلى جانب الخليط الطائفي للطبقات الدنيا والوسطى في وسط بيروت ومحيطها، اختلط أثرياء لبنان والخليج وبعض الأوروبيين في منطقة الفنادق بين الفينيسيا والسان جورج وهوليداي إن وغيرها قرب شاطئ البحر. وهناك كان يبرز لبنان "الملهى" أو "الواحة في الصحراء" أو الذي وصفه الزعيم اللبناني كمال جنبلاط بـ "الدكان على الشاطئ". وهناك كانت تتمظهر الفروقات الطبقية الصارخة بين اللبنانيين.
إلا أن الحروب اللبنانية في سنتيها الأوليين (1975- 1976) بدت كأنها تستهدف وسط بيروت، فتحوّل إلى خط التماس الأول الذي يفصل بين شرق بيروت وغربها. وهناك كانت تختصر المعارك في بداياتها، وكانت تلك المعارك ترواح بين ساحة الشهداء ومنطقة الفنادق. ثم حين امتد خط التماس شرقاً وغرباً مقسماً بيروت إلى قسمين (شرقية وغربية)، إنما كان يمتد من بؤرة وسط البلد، ولو افترضنا أن خط التماس هذا سلك كهربائي فإن معارك وسط البلد كانت المولد الكهربائي الذي يضخّ فيه الكهرباء.
وسط بيروت أو "سوليدير"
بعد انتهاء الحرب وتوافق الساسة اللبنانيين على رمي السلاح في اتفاق الطائف (1989)، بدأ الحديث عن إعادة إعمار ما دمّرته الحروب الأهلية. كان مشروع إعادة إعمار وسط بيروت التعبير "الإعلاني" الأول عن انطلاق مرحلة السلم بين اللبنانيين، وكان الرئيس الراحل رفيق الحريري يريد أن يجعل بواسطته "بيروت مدينة عريقة للمستقبل".
دعنا من تفاصيل استلام شركة سوليدير مشروع إعادة إعمار "البلد"، لكن ما يمكن الخوض فيه هو عدد من الأسئلة: هل أرادت سوليدير عبر تخطيطها العمراني والمديني أن تعيد وسط بيروت إلى سابق عهده؟ هل يشكل "داون تاون" بعد عشرين سنة من انتهاء الحرب مكاناً للقاء جميع اللبنانيين واختلاطهم؟ هل ينتسب وسط بيروت إلى النسيج العمراني والاجتماعي لمدينة بيروت؟ هذه أسئلة يطرحها لبنانيون كثر.
قد يكون من الظلم مطالبة شركة عقارية كسوليدير إعادة اللحمة بين اللبنانيين، فللحرب جروحها العميقة وليس على عاتق سوليدير رتقها. لكن، من الواضح أن العقلية التي أدارت فيها الشركة عملية إعادة الإعمار هي عملية تجارية استثمارية، لم يكن للشق الاجتماعي فيها أي أثر. وهكذا فإن أسعار المساكن الخيالية في الوسط جعلتها حكراً على اللبنانيين الأكثر ثراء وأقرانهم من أثرياء الخليج العربي، وهؤلاء لا يشترون المساكن ليسكنوا فيها، بل ليستثمروها أو ليمروا عليها مروراً سريعاً لا يترك لهم أثراً في الوسط ولا يسمح للوسط أن يترك فيهم أي أثر. لذلك، يرى البعض في وسط بيروت مكاناً لا يملك هوية اجتماعية أو ثقافية، على الرغم من ضرورة الاعتراف بجمال هندسته خصوصاً الأبنية المرممة التي تركت سوليدير هندستها على ما كانت عليه.
الرأي والرأي الآخر
المهندس الباحث في العمارة الاجتماعية اللبناني رهيف فياض له رأيه الخاص في موضوع إعادة إعمار وسط بيروت من قبل شركة سوليدير، إذ يرى أن الأخيرة "محت الساحات والأسواق وألغتها من الثقافة ومن الذاكرة، واستبدلتها بأبراج لا نعرف ساكنيها، وقتلت المجال العام، وطردت الفقراء وحوّلت وسط بيروت إلى ضاحية للأغنياء". ويعتقد أنها ساهمت في التفتيت المذهبي الحاصل اليوم، لأنها دمرت النسيج الاجتماعي الذي كانت تتميز به المنطقة قبل الحرب. "فسوليدير أهملت القيمة التاريخية لوسط بيروت واستبدلتها بالقيمة التجارية، ولم تتملك الأرض فحسب بل تملكت تاريخ المدينة وغيّرته".
لكن هناك رأياً آخر يقول إنه منذ العام 2000، برز وسط بيروت كواحد من أهم مشاريع التجديد داخل المدن، مع فرادته لكونه يشمل وسط مدينة كاملاً. وكان اكتسب صفة المشروع النموذجي كمثال على "التنمية المدينية المستدامة" في مؤتمر "الموئل" (Habitat) الذي نظمته الأمم المتحدة في إسطنبول عام 1995، وفي المعرض الدولي "أكسبو 2000" في هانوفر.
وتنبّه منظّرو ومهندسو إعاداة إعمار وسط بيروت إلى معضلة انتساب الوسط إلى المدينة وصعوبة تآلف اللبنانيين معه، لذا افتتحوا "أسواق بيروت" المبنى الضخم الذي يضم مئات المحال التجارية والمطاعم وصالات السينما ومراكز ثقافية. وقرر مديرو سوليدير نشر مجلة باللغتين العربية والإنجليزية تتناول مواضيع الهندسة والعمران والبيئات المدينية السليمة في بيروت أو في الخارج. والهدف هو الرد على المعترضين على السبل التي اتبعت لإعادة الإعمار. ثم لجأت الشركة إلى افتتاح كورنيش "زيتونة باي" على المارينا قرب السان جورج حيث مرفأ اليخوت. وعلى الرغم من أن هذا الكورنيش هو استعادة "كاريكاتورية" لمنطقة "الزيتونة" القديمة، إلا أنه على الأقل يمنح خياراً لزوار الوسط بأن يمضوا وقتاً على ضفافه وليس بالضرورة في داخله كما كانت الحال.
مهما تنوّعت الآراء في شأن وسط بيروت وإعادة إعماره، إلا أنه يبقى نبض المدينة في زمن السلم إذ يتحوّل إلى مركز سياحي يستقطب الزوار من مختلف أنحاء العالم، وكذلك في الأزمات إذ يتحوّل إلى ساحة للتعبير والاعتراض.