في الطريق إلى مقر منظّمة "بيت تركيب للفنون المعاصرة" وسط الكرّادة في بغداد، تصادفك لافتة نعي لشاب مسيحي هو "ريمون ريان سالم"، الذي باستشهاده قبل أيّام في ساحة الخلاني القريبة من مركز الاعتصام في ساحة التحرير، يكتمل تمثيل المكونات العراقيّة جميعها في قائمة شهداء التظاهرات، سواء من الطوائف أم القوميات والأديان الموجودة في عراق اليوم. لافتة النعي البسيطة كانت تشبه واجهة بيت هذا الشهيد، مسكن متواضع لكنّه بمدخل نظيف ومرتّب، مثل كلّ الوجود المسيحي في بلاد الرافدين. زميلان آخران لريمون استشهدا في اليوم نفسه، هما علاء الشمري ومحمد المختار، مسلمان من طائفتين مختلفتين، الثلاثة كانوا معاً في ساحة تظاهر واحدة، مصيرهم واحد: رصاصة في الرأس أنهت كلّ شيء. كنيسة النجاة هي من أبّنت ريمون وأقامت مجلس عزائه، المكان ذاته كان قد تعرّض العام 2010 لهجوم إرهابي استهدف مراسيم القداس فيه، لتتفحّم على إثره أجساد العشرات من مسيحيي هذا الحيّ، بعد صيحات أطلقها انتحاريون وهم يفجرون أجسادهم.
هذا ما رافق الخطى صوب "بيت تركيب"، لافتة عزاء وذكريات موت في كنيسة، وبينما تحط الأقدام هناك، حيث "عرض تشرين" المُنتظر أن يقدّمه مجموعة شباب، يسيطر الجو المأتمي في الخارج على وجوه الحضور في هذه الأمسية.
يقوم بناء العمل على استرجاع يوميات ثوار الحراك التشريني، في تمازج عفوي غير خاضع لاشتراطات المسرح، فهو عرض أدائي يجمع سرداً مسجّلاً بصوت أحد أبطال المناسبة عن تفاصيل نهارات وليال قضاها المعتصمون في ساحة التحرير، مع فيديوهات وثائقيّة عن أحداث ووجوه مرّت في مسار تشرين الأوّل وما تلاه، في حين تعدّ المشاهد الممسرحة هي المتن الأساسي للعرض، وفيها تناوب الشباب على تجسيد أدوار كلّ من "المسعفة" والمعتصم عند ما يسمى "خطّ الصد" و"رافع الراية" و"العازف" و"الطالبة الجامعيّة" و"الناشط" الذي ينظف مكانه ولا يترك أيّ أوساخ فيه.
بانوراما احتجاجية
يقتحم كلّ هذه البانوراما الاحتجاجيّة "تكتك" يضيء فضاء العمل ووجوه الجمهور، مع دخوله يتواصل السرد لمّا أسماه كاتب النصّ "جمهورية تشرين"، ومثلما كان التكتك عربة للمفاجآت والمواجهة الحقّة، يبرز بلونه الأصفر في العمل وكأنّه وهج يزيل عتمة المكان قليلاً ويسحب المتلقي من مزاج مأساوي نتاج توالي أخبار المقاتل والتغييب. واسم "جمهورية تشرين" عتبة مهمّة تعود إليها كلّ خطوط هذه الساعة المتأرجحة بين الأداء والحكي والتوثيق الفيديوي. فيها مشاهد للكيفية التي صنع فيها الثوار حدودهم الجديدة وأخلاقيات التعامل فيما بينهم من الشابات والشباب، كأنّما أراد من يؤدّي هذه الأدوار نقل كلّ الالتماعات التي حصلت في ساحة التحرير، برغم ما حيك لها وما بذله البعض للإجهاز على الحراك.
مع علم العراق الذي يرفعه الشباب، تبزغ بعدها راية بيضاء بيد أحد أبطال العمل لتتوافق مع ما قاله سارد الجمهورية، أنّ السلمية هي الطابع العام لهذا الفعل التشريني، وأنّ البياض مطلب الذي تصدّروا الميادين بصدورهم، وما كانت الساحة تحت نصب جواد سليم إلا صوتاً لساحات أخرى، نبض واحد يبدأ من بغداد والناصرية والبصرة ليصل النجف وكربلاء والسماوة والديوانية وميسان وبابل وواسط. وبينما يأخذنا السرد إلى سيرة الشهداء وكيف استشهد هذا وذاك، فجأة يجد الجمهور نفسه أمام حزمة شموع يبادر كلّ منهم لإيقاد أحدها استذكاراً لهذه الأرواح.
في العرض، تحضر الكمامة والدرع المعدني والمكنسة ومستلزمات الطبخ في الخيم التي تظهر تباعاً بالتوازي مع تأدّية فصول من حياة هذه الجمهورية الوليدة.أهمّ ما في هذا الأداء العفوي استقدامه لهذه التسمية من أروقة الساحات، إذ معها يصوغ تشرين بداية تاريخ جديد للبلد، في عنوان يرفع من طاقة الأمل داخل فضاء "تركيب" ويتركها تسير على خيط رفيع في الخارج.هذه الطاقة وإن كانت مهدّدة بالفتور على الدوام، لكنّها تغذي الحلم بجمهورية عادلة توقف كلّ هذه المحن في لحظة من التاريخ، مثلما اقتحم شبان "جمهورية تشرين" أحزان الكرادة في مساء فاتر لا طعم له.
أخيراً صار عندنا جمهورية واعدة، حدودها من ساحة الخلاني إلى نفق شارع السعدون، ومن ساحة الطيران إلى جسر الجمهورية، هذا ما أراد أن يعلنه لنا شباب عرض "بيت تركيب" ببساطة عالية وبقدر كبير من شجاعة أبطال ساحات العراق.