يسمونها مهناً "هامشية"، ويلقبون قطاعها بـ"غير الرسمي" تارة و"العشوائي" تارة أخرى، وينظر القابعون خارجها باعتبارها طفيليات يجب التخلص منها، إما عن طريق التقنين والإخضاع لرقابة الدولة وضرائبها وقوانينها، أو باعتبار أصحابها هم والعدم سواء.
وسواء اعتبرت الغالبية هذا القطاع بسكانه والمنتمين إليه والمنتسبين له موقتاً والمرتبطين به بشكل أو بآخر عالة أو زائدة دودية أو حملاً ثقيلاً، أو تم التعامل معه بعين فيها قليل من الرحمة مع بعض من التعاطف، تبقى هذه الفئة العريضة جداً شوكة في حلق التعامل مع "كورونا" وصداعاً في رأس الجميع.
الهامشي الحيوي
الجميع يأخذ حذره هذه الأيام جراء "كورونا"، فقد تم تعطيل الدراسة في المدارس والجامعات، وتخفيض عدد العاملين في المصالح والأجهزة الحكومية، وتدريب أعداد كبيرة من العاملين في القطاع الخاص والشركات على العمل من البيت، وقرر البعض التزام البيت لحين اتضاح الموقف، وأغلق العديد من الأندية والمراكز الرياضية أبوابه أو علق أنشطته الرياضية وأماكن التجمعات المغلقة.
لكن تبقى هذا القطاع الهامشي الحيوي، العشوائي المحوري، غير الموجود على الورق القابع الكامن الرابض في كل ركن من أركان مصر في المدن الكبرى والصغرى، في الريف والحضر، في الأحياء الراقية والشعبية متمثلاً في ملايين البيوت المصرية، عصياً على محاولات الحظر وجهود الحجر ومحاولات التطويق.
تطويق نحو 58.3 في المئة من مجموع القوى العاملة في مصر (بحسب دراسة عنوانها "غير رسمية وإنتاجية المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر في مصر أجراها منتدى البحوث الاقتصادية في مصر) بحديث عن حجر اختياري، أو حظر إجباري، أو عزل صحي أمر يشبه الكابوس في ملامحه، والأزمة في معالمها، و"حسبة برما" في محاولة فك طلاسمها.
"حسبة برما"
ويقول التاريخ إن سيدة مصرية من قرية "برما" في طنطا في العصر العثماني كانت تحمل سلة فيها بيض، اصطدم بها أحدهم، فتكسر البيض كله، فصرخت المرأة لأن بيتها خرب وعيشها قُطع. سألها المارة عن عدد البيض الذي كان في السلة لتعويضها، فقالت "إذا أحصيتم البيض بالثلاثة تتبقى بيضة، وإذا أحصيتموه بالأربعة تتبقى بيضة، وإذا أحصيتموه بالخمسة تتبقى بيضة، وإذا أحصيتموه بالستة تتبقى بيضة، أما إذا أحصيتموه بالسبعة فلا يتبقى شيء"، ونجم عن هذا انشغال أهل القرية كلهم بمحاولة الوصول إلى حل الحسبة المستعصية، حتى توصلوا إلى عدد 301 بيضة بعد تفكير مضن وتجارب حسابية لا حصر لها.
حصر أعداد المصريين المنتمين أو المنتسبين أو المعتمدين بشكل مباشر أو غير مباشر على مجالات العمل غير الرسمية أمر بالغ الصعوبة، وكل الأرقام والإحصاءات تقريبية، لكن تقريبية الأرقام لا تعني تقريبية الآثار الوخيمة على ملايين البيوت المصرية المفتوحة والمستمرة على قيد الحياة، أو حتى على هامشها، بفضل أعمال ومهن هامشية.
يقول محمد، 22 عاماً، سائق عربة "توك توك" في منطقة "عزبة الهجانة" العشوائية شرقي القاهرة، "كانت القشية معدن" (الحياة هانئة) حتى جاء زفت كورونا"، على حد قوله، لكن ما لا يعلمه محمد أن "الزفت" الحقيقي لم يكشف عن وجهه بعد، مضيفاً "بعد حملات التلفزيون والفيسبوك الشريرة لتخويف الناس ومنعهم من النزول، أعود إلى البيت وفي جيبي ما لا يكفي للعشاء".
دخول تأثرت
عشاء محمد وأسرته المكونة من أب وأم وجدة وأربعة أخوة يعمل ثلاثة منهم في مهن جميعها "غير رسمي" لم يعد من المسلمات أو البديهيات. نادل وبائع أكسسوارات هواتف محمولة وسايس هي مهن أشقائه، وقد تأثرت دخول الثلاثة سلباً على مدار الأيام القليلة الماضية، وتحديداً منذ تسارعت وتعالت دعوات البقاء في البيوت، مع تعطيل الدراسة وتقليل أعداد الموظفين في المصالح الحكومية.
محمد يصف الشوارع الخالية بأنها "خراب بيوت مستعجل"، ويعتبر دعوات وحملات البقاء في البيوت "تحكم من يملك فيمن لا يملك"، ويقول "مقدر تماماً الخوف من كورونا، لكن الخوف من خراب البيوت أكبر، ولو بقينا على ما نحن عليه، ستتضاعف الأزمة، لماذا لا يفكر الإعلام والمسؤولون في القرارات قبل اتخاذها؟!".
"كورونا" وإرادة الله
بالطبع محمد وغيره ملايين من عاملي القطاع غير الرسمي يفاضل بين "الوقاية من كورونا التي لو أصابتنا فإنها إرادة الله"، و"المخاطرة بالإصابة مع إبقاء البيت على قيد الحياة"، والمفهوم نفسه يهيمن على حديث مجموعة من عمال البناء باليومية في مدينة الشروق المتاخمة للقاهرة.
المجموعة التي تتراوح بين مراهقين وشباب ورجال من عدد من المحافظات المختلفة تتراوح لديهم درجات الوعي بأزمة "كورونا" وما تعنيه بالنسبة إلى الصحة، وكذلك درجة التشابك بين القضاء والقدر من جهة ومصروفات البيوت التي ينفقون على أعضائها من جهة أخرى، لكنهم يقفون على جبهة واحدة حين يتعلق الأمر بتلويحٍ بمزيد من الإغلاق والتضييق على العمل والتنقلات.
يقول أحدهم إنه لو صدر قرارٌ مثلاً بمنع التنقل بين المحافظات أسوة بدول أخرى اتخذت خطوات شبيهة، فستكون كارثة، لأنه مسؤول عن والدته المسنة والمريضة والتي تعيش مع زوجته وأبنائهما في محافظة الشرقية، ويرد عليه زميله بأن المقاول الذي يعملون معه لو تأخر في سداد يومياتهم لأي سبب فسيؤدي إلى تأخر في إطعام أسرته المكونة من سبعة أفراد بين أبناء وآباء وأمهات. وتتوالى القصص الشخصية والرؤى الواقعية باحثة عن حلول سريعة وتدخلات آنية.
مبادرات التكافل
عدد من النوادي الرياضية قام بمبادرات للتكافل، وبادرت مجموعات من أعضائها بعمل صناديق لجمع التبرعات وتوزيعها على عمال النظافة والنادلين ممن يعتمدون في الجانب الأكبر من دخولهم على الإكراميات والتي تأثرت كثيراً سواء بسبب الإغلاق أو قلة تردد الأعضاء الملتزمين بيوتهم والمقللين من الاحتكاك بالآخرين.
تجمعات سكنية مغلقة بادر سكانها أيضاً بمناشدة الجيران التبرع لأفراد الأمن لمساندتهم وأسرهم، بينما مجموعات "واتساب" خاصة بأماكن عمل تم تحويل أغلب موظفيها للعمل من البيت يجمعون أموالاً لمساندة عمال البوفيه والنظافة، ومجموعات أخرى نشطت في طرح حلول أغلبها قائم على التبرعات من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه لهذه الفئة العريضة غير الرسمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وزير القوى العاملة، محمد سعفان، قال إن العمالة غير المنتظمة والمسجلة لدى الوزارة ستحصل على منحة بقيمة 500 جنيه مصري (31.75 دولار)، وذلك عن طريق البريد أو بالطرق التي يتعاملون بها مع الوزارة، أما العاملون غير المسجلين فسيحصلون على المنحة ذاتها عقب التسجيل، شريطة أن يثبت استحقاقهم لها.
ويؤكد أن "صندوق الطوارئ" يسمح بتغطية الأضرار التي وقعت على عمال قطاع السياحة، وهو أحد القطاعات الأكثر تضرراً، وشبّه الوضع الحالي بما جرى عقب أحداث يناير (كانون الثاني) 2011 حين توقفت حركة السياحة ما أضر بملايين العاملين في مهن غير رسمية مرتبطة بهذا القطاع، ووقتها تم صرف نحو 400 مليون جنيه مصري (25.40 مليون دولار) للمتضررين.
المتضررون بالملايين، وسبل تقليص حجم الضرر لا تزال في مراحلها الأولى، حيث إن هجمة "كورونا" الشرسة لم تكن على البال أو الخاطر أو التخطيط. النائب البرلماني عن السويس طارق متولي أصدر بياناً يحذر فيه من تدهور أوضاع العمالة غير الرسمية جراء فيروس "كورونا"، وجاء في البيان أن هذه الفئة تعاني أصلاً من ضياع الحقوق وعدم وجود عقود رسمية تحمي أصحابها وتضمن حقوقهم، وأن الأمر سيتدهور مع انتشار فيروس "كورونا"، لا سيما أن شركات عدة في الخارج بدأت في تسريح العمال لديها بسبب الفيروس وتأثيره السلبي، حيث إغلاق المطاعم والمقاهي وتعطيل أعمال وفعاليات رياضية وفنية عديدة، ما أثر سلباً على أرباحها.
ملايين هنا وهناك
وجاء في البيانات أن الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تشير إلى وجود نحو 5.6 مليون عامل يومية في مصر، بالإضافة إلى نحو 277 ألف عامل يومية، و233 ألف عامل موسمي في داخل المنشآت الحكومية، ويضاف إلى تلك الأعداد نحو 609 آلاف عامل موسمي، و3.7 مليون عامل متقطع في القطاع الخاص.
وسواء كانت هذه الملايين في قطاع عام أو خاص، أو كانت "على باب الله" كما يسميها المصريون، فإن أزمة"كورونا" الحالية، والخطر الذي يلوح في الأفق حيث التهديد بتبخر يوميات هذه الملايين في هواء العزل والحظر والحجر والخوف، تتحدث أستاذة الاقتصاد في الجامعة البريطانية في مصر إلى "اندبندنت عربية" عما كشفته كارثة "كورونا" الحالية والتي تستوجب تدخلاً سريعاً ما أن تهدأ الأزمة، قائلة "هذه الملايين التي تجد نفسها مهددة بين يوم وليلة لأنها لا تعمل إلا في مهن هامشية وبالطبع غير رسمية حيث لا عقود أو حقوق أو ضمانات، يجب إعادة تدريبها وتحويل مسارها إلى قنوات تعود بالنفع عليها وعلى الدولة"، وتقترح أن يتم توطين صناعات في مصر، لا سيما أن الصناعات التي كانت مصر تعتمد عليها لاستيراد سلع ومنتجات بعينها من الصين تعرضت لخسائر كبرى، وتقول "لم يعد تدريب وإعادة تأهيل هذه الفئات اختياراً بل ضرورة ملحة لمن ينتمون إليها وللدولة".
إنقاذ مضاعف
اليوم وفي خضم أزمة "كورونا" واستمرارها في الكشف عن مشكلات وأزمات كبرى كان البعض يظن أنها ستبقى مؤجلة مدى الحياة، تتحول العمالة غير الرسمية إلى صداع وألم رهيبين، وبعد أن أشاد كثيرون بها باعتبارها طوق النجاة الذي أسهم في إنقاذ اقتصاد مصر عقب أحداث يناير عام 2011، وقت زادت معدلات البطالة وانخفضت الاستثمارات الأجنبية بشكل غير مسبوق، تحول الاقتصاد غير الرسمي والعمالة الهامشية أو العشوائية إلى "فيتامين" الاقتصاد المصري ومضاد للهدم، فقد وفر هذا القطاع فرص عمل ودخولاً إضافية لملايين. صحيح إنها فرص ألقت بظلال وخيمة حيث شيوع الفوضى وتجذير خرق القوانين من "توك توك" غير مرخص ومجالات عمل لا وجود لها على الورق، إلا أنها كانت "الملاك المنقذ" في إحدى أصعب المراحل التي خاضتها مصر في التاريخ الحديث. ووصل الأمر إلى درجة مساهمة هذا القطاع بنسبة 23.12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر.
مصر تعاني منذ عقود من تنامي قطاعات العمل غير الرسمية، والمصريون يعانون على مدار هذه العقود من زيادة جنونية في أعداد المنضمين إلى هذه القطاعات، لا سيما في ظل تهاوي ثقافة تنظيم الأسرة لصالح "العيال عُزوة"، إلا أن المنتمين للقطاع ضحايا وليسوا متهمين، أنقذوا الاقتصاد المصري مرة في 2011 وما بعدها، وهم في ظل "كورونا" يحتاجون من ينقذهم مرتين، مرة إنقاذاً عاجلاً لمواجهة شبح "كورونا" الملقي بظلاله الوخيمة المضاعفة عليهم، ومرة إنقاذاً آجلاً لتصحيح مسارهم وتقنين أوضاعهم.